رجل المزمار الهندي: الأستاذ بسم الله خان

21-08-2024  آخر تحديث   | 21-08-2024 نشر في   |  M Alam      بواسطة | Dr. Quamer Shaban 
رجل المزمار الهندي: الأستاذ بسم الله خان
رجل المزمار الهندي: الأستاذ بسم الله خان

 

د. قمر شعبان

رجل المزمار الهندي، ساحر الشهنائي، إمبراطور الموسيقيين في الهند، العازف الموهوب الموروث الباهر المُبهر؛ الأستاذ بسم الله خان؛ وبسم الله خان الأستاذ؛ الذي نفخ في الآلة القصبية-الخشبية فصارت نبرات؛ والنبرات هذه هي تلك الموسيقى المدهشة المُطربة المُغَّنِّجةُ؛ التي سحرت العقول والمشاعر، وافتخرت بالمثول على شفتيه النافختين الأغاني والأناشيدُ والترانيمُ، ورقصت على تيار أنفاسه الألفاظُ والكلماتُ، والغُنَّاتُ والمَدَّاتُ؛ لقد نام ذاك الشهنائي الفريد، ونام صاحبه الاستثنائي الفذ في اليوم الحادي والعشرين من شهر أغسطس عام 2006م. وذلك هو اليوم الذي أصيبت فيه النبرات الموسيقية المبهرة تلك بالصمت المطبق للأبد؛ ودفن مع بسم الله خان مزماره بجواره في القبر. ولكن هذا الدفن لم يُطِق دفنَ هذا الألمعي العظيم؛ الذي ما زال حيًا في القلوب والمشاعر بطريقة مدهشة، وما زالت نبراته تحلق على سماء الأدب والفن، وتترنن أصداؤها الموسيقية فيما بين جبال الهمالايا ووديان كاشمير، وسواحل نهر الكنج، ومنابر المعابد، ومسارح المُدَرَّجات، ومنصات الاحتفاليات، وقاعات السينما، ومجالس الحسينيات، ومواكب الأعراس، وضربات النياح والمراثي.   

نشأته على العزف والتزمير

العزف، والتزمير، والموسيقى؛ كل ذلك ما تربى عليه بسم الله خان؛ وهذه التكوينية الفنية الموسيقية هي التي جعلته رمزًا من رموز السماحة، والتعايش، والمرونة، والوئام؛ كان جداه: الأستاذ سالار بخش خان، والأستاذ رسول بخش خان من العزاف البلاطيين المقربين، وأبوه بيغمبر بخش خان زمَّار البلاط الملكي في قصر الملك الهندوسي كيشاف براساد سينغ بدولة دومراون (حاليا في مديرية باكسر؛ مناطق بهوج بور، غرب ولاية بيهار) أيام الاستعمار البريطاني. وكما كان خاله علي بخش ولايت خان -الذي تتلمذ عليه متدربا على العزف- عازف المزمار بالمعبد الهندوسي التاريخي المعروف بـ"معبد كاشي فيشوا ناث"، فالأستاذ بسم الله خان مطبوع بطابع العزف والتزمير والموسيقى، التي صارت هي حياته، وهوايته، وهويته. ولم يتلق بسم الله خان القراءة والكتابة قط، ولم يذهب إلى مدرسة أو كلية أو جامعة لتلقي العلوم حتى لتلقي فن الموسيقى، أستاذه هو خاله الذي دربه على العزف، إلا أنه تعلم كتابة اسمه على بعض معارفه ليتمكن من التوقيع.

الصبح الجديد للموسيقى الهندية الكلاسيكية

الشهنائي هي الكلمة الفارسية التي تقابلها كلمة "المزمار" بالعربية، لها تاريخ عريق في القدم، ولها أصل في الحضارة العربية؛ في مصر، وليبيا، وتونس، والجزائر، والمغرب، وفي دول الهلال الخصيب، وشبه الجزيرة العربية؛ كما ولها وجود في الحضارات الإغريقية، والأوروبية، والأميركية أيضًا. والمزمار آلة النفخ المصنوعة من الخشب أو القصب أو الخيزران، وهي آلة موسيقية شعبية وكلاسيكية، ومع هذا التاريخ القديم، والوجود القوي المستمر للمزمار، إن صاحب الشهنائي الهندي هذا، هو المجلى في هذا المجال؛ فإنه ذاك العازف الفنان، الذي نفخ فيه بنفخاته الموسيقية حياة جديدة، كأنه هو المتمثل في مزماره، ومزماره هو الآخر الذي يتمثل في اسمه.

خان ساحر الشهنائي، وأنموذج التواضع، والتعايش السلمي

سمعت بعض من حضروا احتفالياته الموسيقية في المناسبات المختلفة في بنارس، أن الأجواء، والتيارات الهوائية، والآذان، والأسماع كلها كانت ترقص طربا على النغمات، والنبرات الموسيقية له؛ ويكون الحفل بأكمله على صمت مدهش مستمعا إليه؛ سحر من نوع آخر، سحر فاتن؛ فيه الرقة، والمتعة، والروعة، والاجتذاب.

بسم الله خان هو ذاك الموسيقيُّ الودود العذوب، الذي استأصل جذور التعصب الطبقي، والتطرف العقدي، والتزمت الديني، جامعا كل الديانات الهندية المتشرذمة، والفرق المذهبية بسحر عزفه الخلاب المبهر على مأدبة واحدة، ألا وهي: مأدبة السماحة، والمرونة، والتعايش، والوئام؛ وعلى هذا له مقولة باتت يضرب بها المثل: "الموسيقى للكل وهي لا تعرف الطبقية"! ميلاده في الحادي والعشرين من مارس عام 1916م، ووفاته في 21 من أغسطس عام 2006م، لقد عاش هذه الحياة الممتدة إلى التسعين عاما، محللا بنغماته الموسيقية الحلاوة والطلاوة في المجتمع الهندي، هو بحد ذاته حلو فكوه لطوف نكوت؛ من التقى به كأنه التقى بوردة فائحة الريا، ومن تزلف إليه كأنه وجد مكانا رحبا بمقلة عينيه؛ الفقير لقيه فلم يعجبه أن يفارقه، والثري زاره فلم يطق التطاول على شخصيته الأبية الغنية غنى القلب والنفس.

وهناك حكايات له كثيرة من هذا القبيل؛ شهد شاهد من بلده، أنه لم ير رجلاً متواضعًا يبلغ تواضعه مبلغ تواضع هذا الرجل الجليل، ولم ير رجلاً عظيمًا غيره لايفتخر العظماء بعظمته. وكان كبار الإداريين في مدينة فاراناسي يتكرمون بزيارة خمس شخصيات مهمة، متبركين بهم، إثر تعيينهم بها؛ وكان بسم الله خان على رأس هؤلاء الخمس، وهذه هي العظمة والتبجيل. وعلى جانب آخر، قال أحد منظمي احتفالية فنية من طلاب جامعة بنارس الهندوسية القدامي: في مطلع الثمانينيات من القرن المنصرم، استدعى المنظمون بسم الله خان ضيف شرف الاحتفالية، وعرضوا له سيارةً يركبها من منزله على مسافة 15 كيلو مترا تقريبا ليصل إلى الحفلة، ولكنه رفض هذا الطرح، ووصل إلى الحفلة عن طريق عجلة الدراجة على نفقته نفسه، وهذا مثال آخر لتواضعه وغيرته.

وإلى جانب كل ذلك، كان الأستاذ بسم الله خان محافظًا على الصلوات الخمس على طريقة صلوات الشيعة، إذ كان مسلمًا شيعيًا، وفي ضوء كاتب مقالة عنه باللغة الهندية، وسيم حيدر الهاشمي: لقد واظب بسم الله خان على الصيام حتى آخر أيام من حياته، كان متصدقا بطريقة لا تعرف شماله ما تنفق يمينه.

وكان عازف المزمار البارز الفذ، فريد عصره، ويتيم دهره، عادة كان يرتدي الملابس البيضاء النقية وعلى رأسه طاقية بيضاء مطولة الشكل، ولكنه عندما كان يعزف الشهنائي في مجالس التعازي أيام العشر الأول لشهر المحرم، يرتدي الملابس السوداء الغامقة، ويمشي على الشارع؛ فيمشي معه؛ يمينه ويساره، وراءه وأمامه كل الدنيا؛ يعزف المزمار على أبيات الرثاء، فيبكي بكاءً تفيض عليه عيون الحضور، ولم يقبل مكافأة العزف في مثل هذه المجالس قط. وقال الكاتب نفسه وهو شاهد عين: "ذات مرة أيام حكومة رئيس الوزراء الشهيد راجيف غاندي، كان بسم الله خان يعزف الشهنائي في ساحة بنيا باغ الواسعة وسط مدينة فاراناسي، فانهمرت على خديه الدموع أثناء العزف، فلم يُطق غاندي الموجود في الحفل أن يتغلب على دموعه".  

الجوائز والتكريمات:

كفى لبسم الله خان فخرًا بأن أول رئيس وزراء الهند بعد الاستقلال، البانديت جواهر لال نهرو دعاه إلى أن يعزف الشهنائي من منبر الاحتفالية بأول عيد استقلال الهند؛ اليوم الخامس عشر من شهر أغسطس عام 1947م في القلعة الحمراء بدلهي. صحيح أن الشخصيات تتكرم بالجوائز، والأوسمة، والتكريمات، وذلك فخر لها. ولكن هناك شخصيات ولو قليلة؛ تفتخر بها الجوائز، والتكريمات، والأوسمة ذاتها، فإن بسم الله خان من هذا القبيل من الشخصيات البارزة في الهند. وإن الأناشيد أو الأغاني التي كان يعزفها بسم الله خان لم تكن إلا أغاني شعبية من اللغات؛ الأردية، والبهوجفورية، والهندية البراكريتية، والسنسكريتية؛ ولكنه رغم كل ذلك دعي ضيف شرف الاحتفاليات الموسيقية إلى أوروبا، وإفريقيا، والولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا، وأفغانستان، وإيران، وإلى بعض البلدان العربية، وهونغ كونغ، وغيرها من بلاد العالم شرقًا وغربًا. كما وقد تكرم بأعلى التكريمات الهندية المدنية من أمثال:

-   جائزة بادما شري عام 1961م.

-   جائزة بادما بوشان عام 1968م.

-   جائزة بادما فيبوشان عام 1980م.

-    تكرم بسم الله خان بجائزة بهارات راتنا؛ أعلى شرف مدني هندي عام 2001م.

-   من الشرف له أن قاعة فاخرة في مدينة طهران بإيران أنشئت باسم "قاعة الموسيقيِّ بسم الله خان".

-   أطلقت "الأكاديمية التمثيلية الغنائية" (Sangeet Natak Academy)  بنيو دلهي جائزةً سمتها بـ"جائزة الأستاذ بسم الله خان للشباب" تكريما له.

-   تكرم بدرجة الدكتوراة الفخرية من جامعة بنارس الهندوسية ومن بعض الجامعات الأخرى،  إلى جانب تكريمات إقليمية، وعالمية أخرى، لاحصر لها.

-   من شرفه بعد وفاته، أن الجيش الهندي أدى التحية العسكرية بإحدى وعشرين طلقة نارية وقت دفنه.

اقرأ أيضًا: البروفيسور عبد الباري جعل العمال جزءًا من حركة استقلال الهند

وعلى الرغم من كل هذه التكريمات، كان يسكن بسم الله خان في منزل بسيط ومتواضع في حارة ضيقة تدعى بـ"هارها سراي" بمنطقة نئي سرك (الشارع الجديد)، وسط مدينة فاراناسي، ويقول بعض معارفه: "رغم مكانته السامية كان إنسانًا بسيطًا، وباب بيته مفتوح للجميع؛ كان يجمع بين التواضع والغيرة والاستغناء، وبين التقشف، والتدين، والسماحة، والنفس الأبية".

د. قمر شعبان أستاذ مساعد في قسم اللغة العربية بجامعة بنارس الهندوسية، فاراناسي، أترابراديش

قصص مقترحة