محمد نعمان الدين الندوي
من القمم العلمية الشامخة شموخا، إذا رفع أحد رأسه ناظرًا إليه، سقطت قلنسوته ... (مثل أردي، يراد به: علو مكانة إنسان، وجلالة قدره، وعظمة شأنه بشكل غير عادي).
شخصية فذة بمعنى الكلمة.
عاش -طول حياته- راهبًا في صومعة العلم، ومعتكفًا في محراب الدعوة .. يستقي من علوم الكتاب والسنة، وينشر العلم ويؤلف ويحقق ويحاضر ويدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن.
عاش عيشة عابر سبيل، جاعلًا نصب حياته قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "ما لي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها" (رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح).
يعد -بحق وجدارة- مفخرة الهند، ومن أعظم أعلام التاريخ الإسلامي وعباقرته. قام -بمفرده- بالإنجازات العلمية، التي لا تكاد تقوم بها عدة مجامع مزودة بكافة الوسائل الممكنة.
ألف في القرآن الكريم والحديث الشريف والفقه والتاريخ والسيرة والأدب ومقارنة الأديان والقانون الدولي. ألف نحو 170 كتابًا خلال ستين سنة، كما كتب نحو ألف مقال في الموضوعات العلمية والدينية والتاريخية.
نُشِر أولُ مقالٍ له في جريدة أسبوعية بلاهور (تحت عنوان: "مدارس كي سير" أي "سياحة في المدارس") سنة 1924م.
وقام بتحقيق 12 مخطوطة نادرة، اكتشفها وعثر عليها في مختلف المكتبات من عدة بلدان. وهو أول من قام بترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية.
وكان من الطراز الأول من العلماء والأتقياء والزهاد، وأكاد أقول إنني لا أعرف له نظيرًا -في بساطته وتقشفه وزهده في الدنيا- ممن أعرفه من العلماء المعاصرين.. ولصفاته النادرة العجيبة، يقال عنه إنه كان تخلف من عصره .. العصر الأول المبارك .. عصر الصلاح والتقى، الذي كانت تهب فيه رياح الإيمان والخير والسعادة والبركة .. فمن سعادة أهل هذا الزمان، وفضل الله عليهم أنهم شهدوا رجل العصر الأول ونهلوا من علمه، وتشرفوا بصحبته.
وكان دودة العلم .. عاش للعلم وبه وفيه .. فكان العلمُ شعارهَ ودثارَه، وأنيسه وأليفه، ومصبحه وممساه .. ولفنائه في العلم وعكوفه عليه، وتَفَرُّغِه له، اختار حياة العزوبة، وآثر عليها الاشتغالَ بالعلم والدعوة والبحث والتحقيق.
وظل طول حياته هندي الجنسية، رغم أن أكثر من بلد عرض عليه التجنس بجنسيته، ولكن وفاءً لوطنه، وحبّا إياه .. رفض العروض، وظل معتزًا بجنسيته الأصيلة، منتميًا إلى وطنه مدى الحياة.
وأما زهده وتقشفه فلا يمكن تصور أكثر وأشد منه .. زهد خيالي وتقشف قياسي.. ولم تكن عنده أكثر من أربع بدلات، يسكن في شقة متواضعة، ولم يكن له خادم، فكان يقوم بجميع أموره بنفسه، ويكتفي بالبقول والخضروات، ويحترز من اللحم للشبهة، ويطبخ طعامه بنفسه، ويكنس بيته، ويغسل ثيابه بيده.
ومن زهده في تسهيلات الحياة الجديدة، أنه لم يكن عنده تليفون، ولا راديو فضلًا عن تلفاز، تلك الأجهزة التي تعد اليوم من ضرورات الحياة، ولا يكاد يستغني عنها أحد.
وكانت تعرض عليه الجوائز، ولكنه رفض قبولَ معظمِها، وما قَبِل منها، تبرع بها لصالح مؤسسة علمية أو خيرية، حتى لا يقل أجر أعماله عند الله.
ولم يكن يقتصر على البحث والتحقيق وتأليف الكتب فقط، بل ظل مشتغلًا بالدعوة في مواطن الحضارة الغربية ومعاقلها إلى آخر عمره، يزور المساجد والمراكز والجامعات داعيًا وناصحًا، ويناظر القسس، ويلقي المحاضرات في الكنائس، ويزيل الشبهات حول الإسلام، ويثبت صدقه، وكونَه حقًّا لا مرية فيه، وقد أسلم على يده آلاف من المسيحيين وغيرهم.
وكان متواضعًا جم الأدب، بعيدًا عن الصيت وحب الظهور كل البعد، محترمًا للعلم، موقرًا للعلماء، ذهب مرة إلى دار المصنفين بأعظم كراه (الهند) لمقابلة العلامة سيد سليمان الندوي رحمه الله، فلما وصل إلى غرفة الشيخ سيد، خلع نعليه، فقالوا له: لا حاجة إلى خلع النعل، فأجاب: كيف أدخل بالنعل الغرفة، التي أُلِّف فيها كتاب: "سيرة النبي" صلى الله عليه وسلم.
وكان له قدح معلى في الحديث الشريف وعلومه، روى ثقة -ممن نعرفه من أفاضل العلماء- أنه سمع الشيخ أبا الحسن الندوي رحمه الله يقول -ذات مرة في بعض مجالسه- أن على كبار مشايخ الحديث أن يتتلمذوا للشيخ الدكتور حميد الله، وكفى بها شهادة!
ومن كراماته -كما ذكر الأستاذ محمد ذاكر خان، الرياض- أنه في أواخر أيام حياته، حينما كان عمره 88 سنة، دخل في غيبوبة، وأصيب بشلل تام، وطلبت الجهات المشرفة على علاجه من أسرته الإذن بسحب أجهزة الإنعاش ليموت بهدوء، ولكنهم رفضوا طلبهم، ودهش الأطباء وكادوا لا يصدقون حينما فوجئوا بأن الشيخ حميد أفاق في اليوم الرابع، وتناول إفطاره، وكانت الأيام أيام رمضان، فقد واصل صومه قائلًا: إنه لم يفته صوم يوم واحد من صيام رمضان، منذ أن كان في التاسعة من عمره.
وكان الدكتور حميد الله يرفض -بشدة- أن تلتقط له صورة إلا لضرورة، وإن كان يملك جهاز التصوير، (Camera) يصور به المشاهد والمعالم الأثرية.
والحقيقة كان الدكتور حميد الله رحمه الله نادرة من نوادر الزمان في الفضل والعلم والتقوى والزهد والصلاح.
ومما يعاب علينا -نحن المسلمين- أننا لا نقدر العظماء والنوابغ في حياتهم، فلا نوفيهم حقهم من الإنصاف والاعتراف بفضلهم ونبوغهم وإنجازاتهم وصنائعهم، ولو كان مثل حميد الله في أمة غير أمتنا، لرفعه أهلها على رؤوسهم، ونصبوا له التماثيل بعد وفاته.
وأما نحن فلم نعترف للدكتور النابغة بفضله حق الاعتراف في حياته، ولم نوفه حقه بعد وفاته أيضًا .. كان المفروض أن تُنشأ الجامعات ومراكز البحث والتحقيق باسمه في البلدان العربية والإسلامية، (وفي بلده بصفة خاصة، وفي وطنه بحيدرآباد بصفة أخص) وفاء وتحية له، وتخليدًا لذكراه، وتعريفًا بما خلّف من التراث العلمي العظيم، الذي قلما خلفه أحد غيره في هذا العمر.
أضواء على أبرز محطات
نحاول -فيما يلي- أن نشير إلى أهم ما يتعلق بحياة الدكتور محمد حميد الله من الأحداث والإنجازات:
- هو محمد حميد الله بن أبو محمد خليل الله بن محمد صبغة الله بن محمد غوث.
- ولادته: 19 فبراير عام 1908م بحيدرآباد، الهند.
- وفاته: 17 ديسمبر 2002م بأمريكا.
- تلقى العلوم الإسلامية في الجامعة النظامية بحيدرآباد، ودرس اللغة الإنجليزية بجهوده الذاتية.
- نال شهادة البكالوريوس من الجامعة العثمانية عام 1928م، ثم حصل من نفس الجامعة على شهادة الماجستير عام 1930م، وفي نفس السنة نال شهادة (L. L. B).
- ثم سافر إلى ألمانيا، وواصل دراساته العليا هناك، ونال شهادة الدكتوراه، وكان موضوع أطروحته "الحياد في القانون الدولي الإسلامي".
- ثم توجه إلى فرنسا، حيث حصل على شهادة الدكتوراه تحت عنوان "الدبلوماسية الإسلامية في عصر النبوة والخلافة الراشدة".
- تشرف بزيارة بلاد الحرمين الشريفين، حيث أسمع القرآن الكريم كاملًا، مقرئ المدينة المنورة الشيخ حسن الشاعر رحمه الله، وحصل على الشهادة منه، وكانت هذه الشهادة -في القرآن الكريم- أحب شهاداته إليه، وأعظمها أهمية عنده.
- ثم رجع إلى وطنه حيدرآباد، حيث عمل مدرسًا بالجامعة العثمانية من 1935م إلى 1948م.
- سادت الفوضى والبلابل حيدرآباد بعد تحرر البلاد من الاستعمار، فتركها، وأقام بباريس، وعمل بالمعهد القومي للأبحاث العلمية من 1954 إلى 1978م.
- لما اشتد مرضه عام 1994م، انتقل إلى أمريكا، حيث توفي عام 2002م.
من أبرز أساتذة الدكتور محمد حميد الله
- الشيخ مناظر أحسن الكيلاني
- الأستاذ عبد الحق
- الأستاذ عبد القدير الصديقي
- المفتي عبد اللطيف
- الشيخ صبغة الله
إتقانه لعدة لغات
كان متقنًا لـ "22" لغة، درس الأخيرة منها وهو في الثانية والثمانين من عمره.
وكانت له قدرة فائقة في التأليف في سبع لغات: العربية والألمانية والأردية والفرنسية والتركية والفارسية والإنجليزية.
- نظرًا لبحوثه القيمة وإسهاماته المتميزة في الدراسات الإسلامية، رشح اسمه لجائزة الملك فيصل عام 1994م، ولكنه اعتذر عن قبولها.
- أسلم على يديه أكثر من ثلاثين ألف فرنسي.
من أهم مؤلفاته العربية
1. مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة.
2. كتاب النبات للدينوري، قاموس أبجدي من حرف السين إلى حرف الياء من كتب المتأخرين.
3. صحيفة همام بن منبه مع مقدمة في تاريخ تدوين الحديث.
4. أنساب الأشراف للبلاذري.
5. المعتمد في أصول الفقه.
اقرأ أيضًا: كفایت الله مَلِك من بانديبورا يغيّر حياةَ الأطفال من خلال عمله الاجتماعي
من أبرز مؤلفاته الإنجليزية
1. The Battlefields of the Prophet Muhammad
2. The First Written Constitution in the World
3. The 1400th Anniversary Of The Completion Of Islam
4. Introduction to Islam
هذا الكتاب كتب -أصلًا- بالفرنسية، وترجم إلى 23 لغة.
فهذه السطور القليلة المتواضعة لا تغطي جوانب حياة الدكتور حميد الله، ولا تمثلها تمثيلًا شاملًا. فهي إطلالة سريعة على أهم نواحي حياته، وتعريف موجز بأبرز صفاته وإنجازاته.
محمد نعمان الدين الندوي هو أستاذ الأدب والتفسير في دار العلوم لندوة العلماء بلكناؤ، أوترابراديش، الهند