مجيب الرحمن
تحدثنا في الحلقة السابقة عن مدينة بوفال وأهميتها التاريخية والثقافية والسياحية، وفي هذه الحلقة نسلّط الضوء على الأهمية الثقافية والتاريخية لولاية مادهيا براديش بشكل عام.
ولاية مادهيا براديش، المعروفة بلقب "قلب الهند"، هي أرض ذات أهمية ثقافية وحضارية وتاريخية عظيمة. أدّت الولاية بفضل تراثها الغني بالتقاليد والحضارات القديمة والمجتمعات المتنوعة، دورًا حاسمًا في تشكيل الهوية التاريخية والثقافية للهند. فمن الملاجئ الصخرية ما قبل التاريخ إلى السلالات في العصور الوسطى والآثار والمعالم التاريخية الغنية المتعددة التي تركت وراءها، والتقاليد الشعبية النابضة بالحياة، تجسد ولاية مادهيا براديش جوهر التراث المتنوع للهند.
مهد الحضارات القديمة
يعود تاريخ مادهيا براديش إلى عصور ما قبل التاريخ، كما يتضح من ملاجئ بيمبيتكا الصخرية في منطقة "راي سين". وتحتوي هذه الملاجئ على بعض أقدم اللوحات الكهفية في العالم، والتي تصوّر مشاهد الصيد والرقص والحياة المجتمعية من العصر الحجري. ويسلّط اكتشاف هذه اللوحات الضوء على وجود المستوطنات البشرية المبكرة والتعبير الفني للمجتمعات ما قبل التاريخ.
كانت مادهيا براديش أيضًا موطنًا لبعض أقدم الحضارات الحضرية، مثل إمبراطوريتي ماوريا وجوبتا، والتي أثّرت بشكل كبير في المشهد السياسي والثقافي في الهند. وكانت مدينة أوجاين، المعروفة في النصوص القديمة باسم أفانتيكا، مركزًا بارزًا للتعلم والتجارة والروحانية. وكانت واحدة من المدن الرئيسة في إمبراطورية ماوريا وكانت عاصمة الإمبراطور أشوكا قبل توليه حكم ماجادها. وترتبط المدينة أيضًا بأسطورة فيكراماديتيا، الذي كان بلاطه مزينًا بعلماء مثل كاليداسا.
الأهمية الدينية والروحية
ظلت مادهيا براديش مركزًا رئيسًا للأنشطة الروحية والدينية لآلاف السنين، حيث كانت الولاية ملتقى للهندوسية والبوذية والجاينية والإسلام، فترك كل منها علامة لا تمحى على المشهد الثقافي.
وتعد مدينة أوجاين واحدة من المدن السبع المقدسة الهندوسية (سابتا بوري) وتستضيف مهرجان كومبه ميلا، أحد أكبر التجمعات الدينية في العالم. وتعد المدينة موطنًا لــماهاكاليشورا جيتير لينغا، وهو موقع مقدس لدى أتباع الشيف. ومن المواقع المهمة الأخرى "أومكاريشوار"، وهو أيضًا أحد مواقع "جيتيورلينغا" الاثني عشر، ويقع على جزيرة في نهر نارمادا.
كما وجدت ديانتا البوذية والجاينية موطئ قدم قوي في ولاية مادهيا براديش، حيث شُيد فيها "ستوبا سانتشي" الشهيرة، التي تعد أحد مواقع التراث العالمي لليونسكو، تحت رعاية الإمبراطور أشوكا الذي حكم الهند قبل الميلاد بأكثر من قرنين. ويظل الموقع واحدًا من أكثر بقايا العمارة والأيقونات البوذية المبكرة المحفوظة جيدًا. كما ازدهرت الديانة الجاينية هنا، حيث كانت معالم خاجوراهو وسوناجيري بمثابة مراكز بارزة لعبادة الجاينية. وتُعدّ مدينة خاجوراهو واحدة من أهم المواقع التراثية عالميًا، حيث تشتهر بمعابدها المزخرفة التي تعود إلى عصر سلالة تشانديلا بين القرنين العاشر والثاني عشر الميلاديين. وتمثل هذه المعابد مزيجًا فريدًا من الفن المعماري الهندي والروحانية وتشتهر بمنحوتاتها الرائعة التي تعكس مشاهد من الحياة اليومية، والفلسفة، والرمزية الدينية، بما في ذلك نقوش الحب الشهيرة التي تبرز عمق الإبداع الفني في تلك الحقبة، كما تتضمن منحوتات الحوريات الراقصات، وتماثيل الحوريات اللاتي يرتدين قطعًا جميلة من الحلي حول خصورهن ومعاصمهن وأعناقهن وأذرعهن وأرجلهن.
وأُدرجت مجموعة معابد خاجوراهو ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي، ممّا جعلها وجهةً سياحية وثقافية بارزة، تجذب الزوّار والباحثين من جميع أنحاء العالم لاكتشاف جمالها الفريد وقيمتها الحضارية.
ثراء التقاليد والتنوع الثقافي
مادهيا براديش هي مركز مهم للتقاليد الثقافية الغنية لسكانها القبليين وغير القبليين. وحافظت قبائل جوند، وبهيل، وباجا، وساهاريا على عاداتها الفريدة، والفولكلور، والتقاليد الفنية لقرون. وتعكس الرقصات القبلية مثل سيلا، وبهاجوريا، وكارما الارتباط العميق بين هذه المجتمعات والطبيعة وتقاليدها العريقة.
وكانت المنطقة أيضًا مركزًا بارزًا للأدب والموسيقى والرقص. ويرتبط إرث كاليداسا، أحد أعظم الشعراء والكتاب المسرحيين السنسكريتيين على مستوى العالم، ارتباطًا وثيقًا بمادهيا براديش، وتعتبر رائعته "أبهيجناناشاكونتالام" من كلاسيكيات الأدب الهندي. كما ترعى الولاية التقاليد الموسيقية الكلاسيكية والشعبية، حيث ينحدر تانسين، الموسيقي الأسطوري في بلاط الإمبراطور أكبر من غُواليار. وتظل مدرسة "غواليور جارانا" واحدة من أهم مدارس الموسيقى الكلاسيكية الهندية.
الأهمية التاريخية في العصور الوسطى والحديثة
خلال العصور الوسطى، شهدت مادهيا براديش صعود سلالات قوية مثل باراماراس من مالوا، وشانديلاس من بونديلخاند، وحكام راجبوت من أورتشا وجواليور، وساهم هؤلاء الحكام بشكل كبير في ازدهار الفن والهندسة المعمارية والحكم في المنطقة. وكانت غواليار مركزًا استراتيجيًا وثقافيًا مهمًا، حيث أدّى حصنها دورًا حاسمًا في العديد من المعارك. ويعتبر حصن غواليار من أهم وأبرز المعالم التاريخية في الهند.
كما قامت الولاية بدور حاسم في نضال الهند من أجل الحرية. وشهدت حرب الاستقلال الهندية الأولى في عام 1857م انتفاضات كبيرة في مناطق مثل جانسي وغواليار. وراني (الملكة) لاكشميباي من جانسي، التي قاتلت بشجاعة ضد البريطانيين، أصبحت جزءًا من الذاكرة الشعبية يُضرب بها المثل في الشجاعة لاشتهارها كأشد وأقوى المقاتلين من أجل الحرية في الهند.
وفي العصر الحديث، استمرت مادهيا براديش في الاحتفاظ بمركزها الرئيس في المشهد الثقافي والسياسي في الهند. من خلال مؤسسات مثل أكاديمية "أديفاسي لوك كالا"، ومهرجان رقص خاجوراهو، ومهرجان تانسين للموسيقى، تعمل الولاية بنشاط على الترويج لتراثها الغني وتقاليدها الفنية.
اقرأ أيضًا: مدينة "بوفال" عاصمة مادهيا براديش وجوهرة الهند الثقافية والتاريخية
ختامًا، تظل مادهيا براديش، بجذورها التاريخية العميقة وتقاليدها الثقافية النابضة بالحياة، حجر الزاوية للهوية الحضارية للهند. من كهوف بيمبيتكا ما قبل التاريخ إلى عظمة أوجين وحصن غواليار، والتراث الفني لكاليداسا وتانسين، ومنحوتات معابد خاجوراهو، ومساجد مدينة بوفال التاريخية، وآثارها الإسلامية، تعد الولاية شهادة حية على تراث الهند الغني والمتنوع. وباعتبارها قلب الهند، فهي لا تزال تلهم العلماء والفنانين والمسافرين، وتقدم لمحة عن روح حضارة قديمة تعانق الحداثة بكل ثقة.
أ. د. مجيب الرحمن هو رئيس مركز الدراسات العربية والإفريقية بجامعة جواهر لال نهرو، نيودلهي