أ. د. رضوان الرحمن
الهند بلد كثير الأديان والمذاهب والمسالك والمعتقدات وأغلبيتها قديمة جدًا. ويعيش فيها أتباع الإسلام والديانات الهندوسية والبوذية والجاينية والسيخية والنصرانية ولكن أغلبية السكان تتبع الديانة الهندوسية. ولكل دين أعياده واحتفالاته ومناسباته وطقوسه يشارك فيه ملايين من الناس. وتُعقد هذه الأعياد والاحتفالات في شهر خاص وفصل خاص. ومن مثل هذه الطقوس والاحتفالات هو "كانوار ياترا" (Kanwar Yatra) الذي ينعقد في الشهر الهندي يسمى "ساوان" (Sawan) أو "شراوان" وهو شهر الأمطار يشارك فيه ملايين من الهندوس في شمال الهند بالخصوص. ورغم كونه مناسبة هندوسية يشارك فيها أتباع الأديان الأخرى عن طريق تقديم خدماتهم للمشاركين فيها.
ماهية كانوار ياترا
"كانوار ياترا" أي رحلة أو مسيرة الخلاص والوصول إلى الإله الأعلى عن طريق السفر برًا حافي القدمين من مصدر المياه المقدسة إلى معابد الإله شيفا الواقعة في الأماكن المختلفة يُعتبر من أصعب عبادات الإله بين أديان الهند. وحسب التقاليد الهندوسية، يرتبط كانوار ياترا بتمويج محيط الحليب لإنتاج الرحيق المذكور في كتب الهندوس المقدسة. فعندما خرج السم من خلال عملية التمويج قبل خروج "أمريتا" أي الرحيق وبدأ العالم يحترق من حرارته الشديدة، استنشق الإله شيفا هذا السم ونجا العالم وما فيها من الدمار والهلاك. ولكن بعد استنشاقه بدأ يعاني من آثار السمّ السلبية. وفي العصر الغابر، أحضر رافانا، وهو من أتباع الإله شيفا المتدينين، الماء المقدس من نهر الجانج باستخدام كانوار وسكبه على "شيفا لينغا" (Shiva Linga) وهو رمز للآله شيفا في معبد بورا ماهاديف (Pura Mahadev). وبالتالي تم تحرير شيفا من الآثار السلبية من السم.
ويشير "كانوار" إلى نوع من الطقوس الدينية حيث يحمل المشاركون على أكتافهم الماء من مصدر مقدس في حاويات معلقة على جانبي عمود. وتستمد هذه الرحلة اسمها من جهاز يحمل المياه المقدسة، يسمى كانوار، وبينما يكون مصدر المياه في كثير من الأحيان نهر الجانج، كما يمكن أيضًا أن يكون معادلاً محليًا له. والقربان مخصص للإله شيفا، وغالبًا ما يتم تسميته باسم "بهولا" (البريء) أو "بهولي بابا" (القديس البريء). وعلى الرغم من عدم وجود ذكره في الكتب الدينية للهندوس يُعترف مهرجان كانوار مهرجانًا منظمًا في النصوص الشرعية الهندوسية. فمن المؤكد أن هذه الظاهرة كانت موجودة في أوائل القرن التاسع عشر لأنه سجّل المسافرون الإنجليز عن رؤية رحالة "كانوار" في أماكن عديدة أثناء رحلاتهم في سهول شمال الهند، وقد جاءت الإشارة إليها في المؤلفات الصادرة في إنجلترا آنذاك. وقد أصبحت في العصر الحاضر ممارسة حمل "كانوار" كجزء من الطقوس الدينية من قبل محبي الإله شيفا رائجةً على نطاق واسع في جميع أنحاء الهند.
وتبدأ هذه الرحلة من أماكن مختلفة ولكن مدينة هارِيدُوَار (Haridwar) وغوموخ (Gomukh) وغانغوتري (Gangotri) تعتبر من نقاط انطلاق رئيسة لهذه الرحلة. ويجمع المحبون مياه نهر الجانج المقدسة من هذه المواقع ويسافرون إلى معابد شيفا المختلفة. وتشمل الطرق الرئيسة طريق هاريدوار وهو الطريق الأكثر شعبية بين المعتقدين.
والمعتقدون من الرجال والنساء من مختلف الأعمار في ملابس باللون الزعفراني والغالبية من ولايات أوترابراديش وبيهار وهاريانا ومادهيا براديش يخرجون خلال هذه الفترة في ملايين لجلب المياه المقدسة من نهر الجانج أو الأنهار أو البحيرات القريبة ويحملون حاوياتها على أكتافهم لتقديمها إلى معابد شيفا المحلية، أو معابد محددة مثل معبد بورا ماهاديفا في منطقة باغبات (Baghpat) ومعبد أوغارناث (Ugarnath) في ميروت (Meerut) ومعبد كاشي فيشواناث (KashiVishvanath ) في فاراناسي. ويجدر بالذكر أن كثيرًا من المعتقدين يحملون المياه لأميال راكضين في الطريق آملين قبول أمنياتهم عاجلاً.
ونرى هذه الأيام "كانوار" من مختلف الأنواع والألوان والأحجام، أغلبيته مصنوعة من الخيزران والخشب ويتم تزيينه بالأزهار المتنوعة والقماش الملون وغيرها من المواد. وبعضه ثقيل وبعضه خفيف. ويشير المؤرخون إلى أن هذه المسيرة مستمرة منذ قرون بدون انقطاع ولكن خلال أيام جائحة كورونا لم يشارك في هذه الرحلة إلا الأشخاص المعدودون وذلك لاستمرارية الطقوس السنوية المقدسة.
وخلال هذه الفترة، يتم أيضًا إجراء رحلات صغيرة إلى أماكن مثل براياغ راج (Prayagraj) وفاراناسي (Varanasi). وخلال "شرافاني ميلا" أي مهرجان شهر "شراون" المنعقد في ديوغار (Devghar) في ولاية جهارخاند (Jharkhand)، يقوم الآلاف من المعتقدين في الملابس باللون الزعفراني بجلب المياه المقدسة من نهر الجانج، وخلال هذه الرحلة يقطعون مسافة 105 كيلومترات سيرًا على الأقدام ويقدّمونها إلى الإله بادياناث (Baidyanath) أي الإله شيفا. وحتى عام 1960م، كانت هذه الرحلة مقتصرة على عدد قليل من القديسين والمعتقدين القدامى والتجار الأغنياء القاطنين في القرى والمدن المجاورة، ولكن قد شهدت هذه الظاهرة ارتفاعًا كبيرًا في السنوات الأخيرة.
كانوار ياترا والتعايش السلمي
"كانوار ياترا" هو من طقوس الهندوس المتدينين الذي لا يقوم به أصحاب الأديان الأخرى ولكن أصحاب جميع الأديان يسهمون في هذا المهرجان الهندوسي ويشاركون فيه مباشرة أو غير مباشرة لإنجاحه وجعل الرحلة مريحة ومأمونة للمشاركين فيه. وجهاز "كانوار" الذي يحمله المعتقدون لمسافة طويلة يشارك في إنتاجه وبيعه النجارون المسلمون في مناطق شمال الهند. وخلال هذه الفترة، يمر المعتقدون الهندوس بالطرقات العامة ويعبرون القرى والمدن والمناطق المعمورة رافعين هتافات تقديسا للإله شيفا. ويسيرون ليلاً ونهارًا ويستريحون في جوانب الطرق في المخيمات أو في العرى. ويمر المعتقدون بمناطق فيها المسلمون في الأغلبية بسلام، وحسب التقليد القديم يخرج المسلون من بيوتهم لترحيبهم. كما يكنس السكان المسلمون والهندوس الشوارع والطرقات ويزيلون العقبات من الطرق التي يمشون فيها ويضعون لهم مخيمات لاستراحتهم ويقدمون مياه الشرب والطعام.
وبما أن هذه الفترة هي فترة التنظيف والتطهير الروحي فلا يأكل المعتقدون الهندوس إلا وجبات نباتية فيتم إغلاق محلات اللحم والأغلبية منها للمسلمين في هذه الطرق كما تمتنع المطاعم عن تحضير الأطباق غير النباتية. وأحيانًا يتم تحويل بعض من مطاعم الهندوس والمسلمين الصغيرة إلى مطابخ مجانية للمعتقدين الهندوس. كما يدير الهندوس والمسلمون معًا المرور في هذه الطرق طوعيًا. ومثل هذا التعاون بين المسلمين والهندوس حتى في الاحتفالات والمناسبات الدينية ليس بجديد ونادر. ويتجمع الهندوس حول أماكن صلاة العيدين في جميع القرى كما يشاركون في مسيرات العاشوراء ويزورون ضرائح الصوفية ومقابر الأولياء لإيمانهم بالاستفادة من طقوس جميع الأديان والمذاهب. كما شارك من قديم الزمان المسلمون في عدد كبير في احتفالات ومهرجانات الهندوس مثل عيد الألوان وعيد الأنوار وغيرهما في جميع أنحاء الهند. وبمرور الزمن، يتزايد مثل هذه الشراكة والتعاون والوئام بين أتباع الأديان المختلفة في الهند.