أ.د. مجيب الرحمن
أبرزت زيارة رئيسة جمهورية الهند السيدة دروبادي مورمو إلى الجزائر في الفترة من 13 إلى 15 أكتوبر الفائت أهمية العلاقات السياسية والاقتصادية بين جمهورية الهند والجزائر، حيث حملت هذه الزيارة رسالة تضامن ودعم من الشعب الهندي إلى الشعب الجزائري، كما سعت لتعزيز التعاون في مجالات جديدة. ومثلت هذه الزيارة فرصة لتعميق الروابط الدبلوماسية وتوسيع التعاون الاقتصادي والثقافي، إضافة إلى بحث آفاق الشراكة المستقبلية. وتؤكد زيارة الرئيسة مورمو التزام الهند بتقوية علاقاتها مع الجزائر، وتعكس رغبة الطرفين في استكشاف مجالات التعاون بما يسهم في الاستقرار والتنمية في المنطقة.
ترتبط الهند والجزائر بعلاقات تاريخية عميقة الجذور تمتد إلى ما قبل فترة استقلال الجزائر، حيث نشأ هذا التعاون الوثيق في سياق النضال المشترك ضد قوى الاستعمار، ليصبح قاعدة ثابتة لبناء علاقات دبلوماسية متميزة بين البلدين. وكانت الهند من بين أوائل الدول التي أيدت وبقوة حق الجزائر في الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي في أوائل الستينيات، ووقفت إلى جانب الجزائر كحليف رئيس وداعم أساسي في كفاحها التحرري. ولم يتوقف هذا التضامن بعد تحقيق الاستقلال، بل تطورت العلاقات الثنائية بين البلدين لتشمل مجالات تعاون سياسي واقتصادي متنوعة. ومن خلال التزامها بمبدأ دعم السيادة الوطنية وحق الشعوب في تقرير مصيرها، أدّت الهند دورًا رياديًا على الساحة الدولية في مساندة الجزائر، وهو ما عزّز من عمق العلاقات بين البلدين وأسّس قاعدة متينة قائمة على الثقة والاحترام المتبادل، وشكّلت نموذجًا للتعاون الثنائي الفاعل والمستدام.
وعلى الساحة الدولية، وقفت الهند والجزائر جنبًا إلى جنبٍ في العديد من القضايا العالمية، مما عزّز من عمق علاقاتهما السياسية ورفع مستوى التعاون الثنائي إلى أفقٍ أرحب. فقد ساند البلدان بعضهما البعض في المنظمات الدولية، لا سيما ضمن إطار منظمة عدم الانحياز والأمم المتحدة، حيث تتلاقى رؤاهما بشأن حماية السيادة الوطنية وتعزيز استقلالية القرار. وتعد منظمة عدم الانحياز، التي أسّسها قادة عالميون بارزون، من بينهم جواهر لال نهرو، مثالاً حيًا لطموحات الدول المستقلة حديثًا التي سعت إلى بناء تحالف يقيها من تأثير القوى العظمى ويساهم في تحقيق توازن دولي أكثر إنصافًا. وقد استفادت الهند والجزائر من هذا الإطار لتطوير شراكة قوية تعزز من مبادئ التحرر ورفض الاستعمار، ولتقديم دعم فعّال لقضايا الشعوب العادلة، مثل قضية فلسطين وقضايا مصيرية أخرى.
وهذا التوجه الداعم للعدالة والاستقلال لم يقف عند الحدود السياسية، بل امتد ليشمل التعاون في قضايا ذات أهمية أمنية عالمية، مثل مكافحة الإرهاب وتبني الحلول السلمية للنزاعات، حيث ينظر البلدان إلى السلم والاستقرار باعتبارهما ركيزتين أساسيتين للتنمية والرخاء العالمي. ومن خلال هذه الرؤية المشتركة، عملت الهند والجزائر على دعم الاستقرار الدولي، مستندتين إلى روح التضامن والتكامل، مما أتاح لهما تعزيز شراكتهما الدولية والمساهمة بشكل فعّال في تحقيق الأمن والسلم الدوليين.
ومن الناحية الاقتصادية، شهدت العلاقات التجارية بين الهند والجزائر تطورًا ملموسًا خلال العقود الماضية، حيث أصبحت الهند من أهم الشركاء التجاريين للجزائر، وخصوصًا في مجال الطاقة. وتُعَد الجزائر أحد موردي الطاقة الرئيسين للهند، التي تعتمد على واردات النفط والغاز لتلبية متطلبات نموها الصناعي، فقد وصلت واردات الهند من الطاقة من الجزائر إلى مستويات تزيد عن مليار دولار سنويًا، مما يجعلها واحدة من أكبر المصادر الخارجية للهيدروكربونات. وإلى جانب الطاقة، يزداد اهتمام الشركات الهندية بالاستثمار في الجزائر في مجالات مثل الصناعات الدوائية والبنية التحتية والتكنولوجيا، حيث تسعى الشركات الهندية إلى تعزيز تواجدها وتوسيع استثماراتها في الاقتصاد الجزائري الواعد.
وتقدر الهند أيضًا أهمية الجزائر كسوق للأدوية والمنتجات الكيميائية، إذ تُصدّر منتجاتها إلى الجزائر بقيمة تتجاوز الـ 150 مليون دولار سنويًا، فيما يزداد الاهتمام الجزائري بالصناعات الدوائية الهندية التي تتميز بتكلفة تنافسية وجودة عالية. وهذا التعاون الصناعي يعكس الرؤية الاقتصادية المشتركة التي تهدف إلى تقليل الاعتماد على الاقتصادات الكبرى والاتجاه نحو شراكات متنوعة تعزّز التنمية الاقتصادية للبلدين. وفي السياق نفسه، تسعى الجزائر إلى تطوير بنيتها التحتية في مجال تكنولوجيا المعلومات، وهو ما يشكل فرصة مهمة لشركات التكنولوجيا الهندية لتقديم حلول تقنية تخدم التنمية الرقمية في الجزائر. وقد ارتفع حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى 1.9 مليار دولار، مما يعكس عمق العلاقات الاقتصادية بين البلدين.
وإلى جانب الاقتصاد والسياسة، تربط الهند والجزائر روابط ثقافية متينة ازدادت عمقًا عبر الزمن، حيث تتمتع الهند بتاريخ ثقافي غني بالفنون والسينما، ويمتاز المجتمع الجزائري بتقدير عالٍ للتراث الثقافي الهندي. والأفلام الهندية منذ السبعينيات لاقت قبولاً واسعًا في الجزائر، وما زالت السينما الهندية تحظى بجمهور واسع يعكس اهتمام الشعب الجزائري بالفنون والثقافة الهندية. وعلاوة على ذلك، تستمر العروض الفنية والثقافية بين البلدين، حيث تقام فعاليات ثقافية هندية خلال المهرجانات الجزائرية الكبرى، مما يعزّز التبادل الثقافي ويعزّز التواصل الحضاري بين الشعبين.
وتعكس تجربة النضال من أجل الاستقلال لدى الهند والجزائر تطلعات وأحلاما مشتركة، فقد واجهت الدولتان نضالًا شاقًا وطويلًا من أجل السيادة الوطنية. وفي الهند، كان للمهاتما غاندي وجواهر لال نهرو دور بارز في قيادة حركة التحرر الوطني، ملهمين حركات الاستقلال في دول أخرى حول العالم. وفي الجزائر، كانت حرب الاستقلال ضد فرنسا من أكثر الحروب مرارة، حيث استمرت ثماني سنوات من التضحية حتى نالت الجزائر استقلالها في عام 1962م. وترك هذا الإرث الاستعماري أثرًا كبيرًا على سياسات البلدين في تبني سياسات تدافع عن حقوق الشعوب وحرية الأمم، مما يعزّز من دعمهما المتبادل في المحافل الدولية.
وفي مجال التعليم، تسهم الهند في تطوير قدرات الطلاب الجزائريين من خلال تقديم منح دراسية وفرص تعليمية في مجالات الطب والهندسة والتكنولوجيا. وهذا الدعم الأكاديمي يساعد في بناء قدرات جزائرية مؤهلة تقنيًا، ويمهّد لتبادل معرفي يخدم اقتصاد البلدين. وقد وقعت الدولتان العديد من الاتفاقيات للتعاون في المجال التكنولوجي، حيث تقدم الهند مساعدات تقنية للجزائر في مجالات التكنولوجيا المتقدمة، الأمر الذي يتماشى مع رؤية الجزائر المستقبلية لتنويع اقتصادها بعيدًا عن الاعتماد الكامل على النفط والغاز.
وتُشَكّل القيم المشتركة بين الهند والجزائر أحد الأركان الأساسية لتعزيز هذه العلاقات، حيث يشترك البلدان في تطلع لتحقيق التنمية المستدامة وتطوير البنى التحتية وتحقيق الأمن الغذائي والحد من الفقر. وتسعى كل من الجزائر والهند إلى تطوير قطاعات الطاقة المتجددة، وخاصة الطاقة الشمسية، من أجل تحقيق تنمية مستدامة والحد من الاعتماد على الموارد غير المتجددة، وهو ما يعد جزءًا من التزامهما البيئي في مواجهة تغير المناخ.
اقرأ أيضًا: الجزائر: القطب العلمي والتكنولوجي يمنح الرئيسة دروبادي مورمو الدكتوراه الفخرية
وأخيرًا، تشكل العلاقات الهندية الجزائرية نموذجًا ناجحًا للتعاون المتوازن بين دولتين لهما إرث تاريخي مشترك ورؤية مستقبلية قائمة على التعاون والتنمية. وبهذا، تبقى العلاقات الهندية الجزائرية مرشحة لمزيد من التطور والنمو، في ظل رغبة الطرفين في توسيع مجالات التعاون السياسي والثقافي والاقتصادي، مما يسهم في تعزيز الاستقرار الإقليمي ويفتح آفاقًا جديدة للتقدم والازدهار في المنطقة.
أ. د. مجيب الرحمن هو رئيس مركز الدراسات العربية والإفريقية بجامعة جواهر لال نهرو، نيودلهي