أ.د. مجيب الرحمن
العلاقات بين الهند والسعودية تمتد عبر التاريخ، حيث ارتبط البلدان بروابط تجارية وثقافية تعود إلى قرون طويلة، نشأت من خلالها جسور من التعاون والتبادل أثرت في مجتمعاتهما وشعبيهما. ومنذ تلك الحقبة البعيدة، كانت الهند والسعودية شريكين تجاريين رئيسين، واستمرت هذه الروابط على مر الزمن لتتطور إلى علاقات أعمق وأشمل. وفي العصر الحديث، أصبحت هذه العلاقات أكثر استراتيجية وقوة، لا سيما مع زيادة التواصل بين البلدين وتعميق التفاهم حول المصالح المشتركة، وتوسعت هذه الشراكة بصورة لافتة خلال السنوات الأخيرة نتيجة الزيارات المتبادلة على المستوى الرسمي، وتوقيع اتفاقيات تعاون شاملة وشراكة استرتيجية قوية تغطي مجالات عدة.
اليوم، تمثّل هذه العلاقات فرصةً كبيرة للنمو والازدهار، خاصة مع تطلع الهند، كقوة اقتصادية نامية، إلى تعزيز بنيتها التحتية وتنويع مواردها، وسعي السعودية لتنويع اقتصادها عبر مبادرة رؤية 2030. وفي السياق الاقتصادي، تعد السعودية حاليًا من أكبر شركاء الهند التجاريين في منطقة الشرق الأوسط، وقد وصل حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى حوالي 43 مليار دولار خلال السنة المالية 2022-2023، وهو مؤشر يعكس أهمية هذه الشراكة وتأثيرها المتبادل.
والهند، باعتبارها ثالث أكبر مستورد للنفط الخام عالميًا، تعتمد بشكل كبير على السعودية كمصدر رئيس للطاقة، حيث تمثل وارداتها من النفط السعودي حوالي 18% من إجمالي استيرادها للنفط الخام. وهذا الاعتماد الكبير يأتي في ظل احتياجات الهند المتزايدة للطاقة، التي من المتوقع أن تستمر في النمو بمعدل يتراوح بين 4-5% سنويًا. ويرتبط هذا الارتفاع بزيادة الطلب في الاقتصاد الهندي المزدهر وتعداد السكان الذي يفوق 1.4 مليار نسمة، مما يعزّز من دور السعودية كشريك رئيس وأساسي في تلبية احتياجات الهند الطاقوية، ويتوقع أن يزداد هذا الاعتماد مع مرور الوقت، الأمر الذي يجعل التعاون في قطاع الطاقة حجر زاوية في هذه العلاقة.
وإضافةً إلى التعاون في قطاع النفط، هناك جهود مشتركة بين السعودية والهند لتطوير مصادر طاقة نظيفة، حيث تدرك السعودية أهمية التحول نحو الطاقة المتجددة كجزء من أهداف رؤية 2030 التي تهدف إلى تقليل الاعتماد على النفط وتطوير الاقتصاد الوطني ليشمل قطاعات متنوعة ومستدامة. وضمن هذا السياق، تم توقيع مذكرات تفاهم عديدة بين البلدين لدعم الاستثمار في مشاريع الطاقة المتجددة، بما يشمل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح. وتطمح السعودية للوصول إلى قدرة إنتاجية تبلغ 60 غيغاواط من الطاقة المتجددة بحلول عام 2030م، وقد تسهم الهند بشكل كبير في تحقيق هذا الهدف من خلال خبراتها في قطاع الطاقة النظيفة. وتتمتع الهند بتقنيات متقدمة وخبرات واسعة في هذا المجال، مما يجعل التعاون الثنائي في هذا المجال واعدًا ويعزّز من استدامة العلاقات بين البلدين، إلى جانب دوره في خلق فرص استثمارية جديدة وواعدة لكلا الطرفين.
ومن جانب آخر، يشهد التعاون الاستثماري بين البلدين نموًا كبيرًا، حيث تم توقيع عدد من الاتفاقيات لتشجيع الاستثمارات المتبادلة. فقد أعلن صندوق الاستثمار السعودي عن استثمار 100 مليار دولار في مشاريع هندية على مدى السنوات المقبلة، تشمل قطاعات مختلفة مثل التكنولوجيا، والذكاء الاصطناعي، والبنية التحتية، مما يسهم في دفع النمو الاقتصادي في كلا البلدين. كما تعمل الهند على توفير بيئة جاذبة للمستثمرين السعوديين، من خلال تحسين بيئة الأعمال وتقديم تسهيلات للاستثمار الأجنبي، ويعتبر هذا التعاون فرصةً ذهبية لتعزيز التنمية في البلدين.
وعلى الصعيد الأمني، تطورت العلاقات الأمنية والدفاعية بين الهند والسعودية بشكل ملحوظ، في ظل وجود مصالح مشتركة لتحقيق الاستقرار الإقليمي ومكافحة الإرهاب. ووفقًا للاتفاقيات الثنائية، شهدت السنوات الأخيرة زيادة في التعاون الاستخباراتي وتبادل المعلومات بهدف مكافحة التهديدات الإرهابية المشتركة. وكجزء من هذه الجهود، جرى توقيع مذكرات تفاهم تتعلق بالأمن السيبراني وحماية البيانات، نظرًا للتحديات المتزايدة في مجال الأمن الرقمي. وبالإضافة إلى ذلك، تسعى السعودية والهند لتعزيز شراكتهما في الحفاظ على استقرار منطقة الخليج، التي تمثل أهمية استراتيجية لكلا البلدين.
وأما التبادل الثقافي، فيؤدي دورًا مهمًا في تقوية الروابط الشعبية بين الهند والسعودية. ويعيش ويعمل في السعودية ما يزيد على 2.6 مليون هندي، وهو ما يجعلهم أكبر جالية أجنبية في المملكة. وهذه الجالية تسهم بدورها في خلق بيئة ثقافية وتفاهم مشترك بين الشعبين. كما أن هناك اهتمامًا متزايدًا بالتعاون في مجالات التعليم والفنون والترجمة. فعلى سبيل المثال، تقدم السعودية منحًا دراسية للطلاب الهنود في جامعاتها، فيما تحرص الهند على فتح المزيد من برامج التبادل الأكاديمي لتشجيع الطلاب السعوديين على الدراسة في جامعاتها المرموقة.
ورغم هذه التطورات الإيجابية، هناك تحديات قد تؤثر على مستقبل العلاقات بين البلدين. فمن ناحية، تشهد المنطقة منافسة متزايدة من قبل دول كبرى مثل الصين والولايات المتحدة، التي تتطلع هي الأخرى إلى توسيع نفوذها في المنطقة. وعلى سبيل المثال، تعمل الصين على تعزيز تواجدها الاقتصادي في الشرق الأوسط من خلال مبادرة "الحزام والطريق"، والتي تسعى لربط الصين بالعديد من الأسواق، بما في ذلك الهند. وهذا التوجه قد يخلق تحديات جديدة للهند والسعودية في ظل التغيرات الجيوسياسية.
وكذلك، يأتي التغير في سوق الطاقة العالمية كأحد التحديات المهمة، حيث تسعى الاقتصادات الكبرى في العالم إلى التحول نحو مصادر الطاقة المتجددة للحد من الانبعاثات الكربونية. ويعتبر هذا التحول فرصةً وتحديًا في نفس الوقت للعلاقة الهندية-السعودية. وعلى السعودية العمل على تنويع استثماراتها في الطاقة النظيفة، بينما تواجه الهند تحديات تتعلق بتلبية احتياجاتها المتزايدة من الطاقة دون الاعتماد بشكل كبير على الوقود الأحفوري.
وفي ظل هذه الظروف، يبدو أن هناك فرصًا واعدة لتعزيز الشراكة بين الهند والسعودية. ويمكن أن يستفيد كلا البلدين من هذه العلاقات في تحقيق مصالح مشتركة عبر الاستثمار المتبادل والتعاون في مجالات التكنولوجيا والطاقة والاستقرار الإقليمي. وإن استمرار تعزيز التعاون في الطاقة النظيفة والتكنولوجيا الخضراء، بالإضافة إلى تكثيف التنسيق الأمني والاستثماري، سيجعل من العلاقة الهندية-السعودية نموذجًا يحتذى به للشراكات الاستراتيجية في المنطقة.
اقرأ أيضًا: العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الهند والسعودية
فيمكننا القول إن مستقبل العلاقات الهندية-السعودية يبدو مشرقًا وواعدًا، في ظل الرؤية المستنيرة والقيادة الحكيمة التي تجمع بين البلدين، حيث يدرك الجانبان بعمق أهمية الشراكة الاستراتيجية التي تربطهما وتفتح أمامهما آفاقًا غير محدودة للبروز كقوة جيوسياسية واقتصادية صاعدة. وفي عالم يشهد تغيرات متسارعة في موازين القوى، تتقدم الهند والسعودية بخطى ثابتة لتصبحا ركيزةً أساسية في التحالفات الجديدة التي تدعم صعود الجنوب العالمي. وبتكامل رؤاهما وتعاونهما الوثيق، تملك الهند والسعودية كل المقومات التي تمكنهما من الارتقاء لمصاف الدول المتقدمة قريبًا، ليس فقط لخدمة شعبيهما، بل لتمكين دول الجنوب من الاستفادة من هذه الشراكة الملهمة التي تعد نموذجًا جديدًا للتعاون المثمر في هذا العصر.