أ.د. مجيب الرحمن
تُعد جمهورية الهند وجمهورية مصر العربية من أقدم الحضارات العالمية المستمرة وأعرقها التي لم تشهد انقطاعًا في مسيرتها الحضارية الطويلة رغم مرورها بمراحل حضارية كثيرة واستغنائها بروافد حضارية عديدة عملت على إثرائها وإخصابها. وبعد قرون من الخمول والذبول تحت الاستعمار الغربي، وبالتحديد الاستعمار البريطاني، أخذت الحضارتان تستعيدان قوتهما القديمة لتبرزا على الساحة العالمية بقوة جديدة في ظل المشهد الجيوسياسي والاقتصادي الجديد. وفي ضوء التقارب الكبير بين الهند ومصر المتمثل في الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، يسعى هذا المقال الوجيز إلى استعراض القواسم الحضارية المشتركة بين البلدين التي تمنح هذه العلاقات الثنائية زخمها وقوتها ومتانتها.
العراقة والاستمرارية
تتمتع كل من الهند ومصر بتاريخ طويل غير منقطع يعود عمره إلى آلاف السنين. عُرفت الهند بحضارة وادي السند (حوالي 3300-1300 قبل الميلاد)، وتميزت حضارة وادي السند، والتي تُعرف أيضًا بحضارة هارابا، بعدة خصائص مميزة تميزها عن الحضارات الأخرى في نفس الحقبة، منها التخطيط الحضري المتقدم، والتكنولوجيا المتطورة باستخدامها الطوب المحروق في بناء المباني، والنظام المائي المتطور، وبرامج الحمامات العامة، وحسابات صحية محكمة، وزراعة متطورة وتجارة متقدمة، ونظام متقدم للكتابة، والفن والحرف، ونظام اجتماعي متطور. وعلى غرار ذلك، تميزت حضارة مصر القديمة، وهي معروفة بحضارة الفراعنة، بنظام اقتصادي وعلمي وتكنولوجي واجتماعي متطور جدًا. وتشهد الآثار الباقية من المعابد والمقابر والأهرامات والنقوش على الجدران على عظمة هذه الحضارة وإسهاماتها الكبيرة في مجالات متنوعة مثل الطب، والرياضيات، والهندسة، والفنون. ويمكن القول إن الحضارتين ازدهرتا في نفس الفترة، فالحضارة الهارابية ازدهرت في الفترة ما بين 3300-1300 قبل الميلاد، والحضارة المصرية القديمة (الحضارة الفرعونية) ازدهرت في الفترة ما بين 3100 إلى 600 قبل الميلاد، ولن يُستبعد وجود العلاقات التجارية بين هاتين الحضارتين الأعرقين في العالم.
حضارة الأنهار: الميزة الثانية التي تلتقي فيها الحضارتان الهندية والمصرية هي أنهما "حضارة الأنهار"، أي أنهما ازدهرتا على ضفاف الأنهار الرئيسة -نهر النيل في مصر ونهر السند والجانج واليامونا في الهند- والتي كانت ضرورية للزراعة والنقل والتجارة. فكل الحضارات القديمة ازدهرت وبلغت أوجها على ضفاف أنهارها لاعتمادها على المياه للزراعة والنقل والتجارة.
الهندسة المعمارية
البعد الثالث للتلاقي الحضاري بين الهند ومصر هو تميزهما بهندسة معمارية ضخمة وبديعة. فتشتهر مصر بأهراماتها ومعابدها، بينما تشتهر الهند بمدنها القديمة مثل موهينجودارو وهارابا، بالإضافة إلى الآثار اللاحقة مثل معابد خاجوراهو وإلور، وفي فترة متأخرة مبنى التاج محل الذي بناه الملك المغولي شاهجهان ويعد إحدى العجائب السبع في العالم.
الوثنية والإسلام
تلتقي الحضارتان الهندية والمصرية القديمتان في الوثنية، إذ كان المصريون والهنود القدامى يعبدون آلهة متعددة ترتبط غالبًا بالعناصر الطبيعية والمبادئ الكونية. وتعد مصر أيضًا أرض الأنبياء حيث أرسل النبي يوسف وموسى وهارون (عليهم الصلاة والسلام). وتعد الهند أرض الآلهة والإلهات، ويعتقد كثير من العلماء المسلمين بأن آلهة الهندوس مثل راما وكريشنا وغيرهما كانوا أنبياء الله إلى أرض الهند. ومهما كان الأمر، فتلتقي الحضارتان في بُعد روحي قوي يمكننا أن نلاحظ آثاره إلى يومنا هذا. ولما دخلت مصر في الإسلام قبلت كل المؤثرات الروحية للإسلام وبرزت كأهم مراكز الثقافة الإسلامية وحافظت على إمامتها إلى يومنا هذا، وبالمقابل، أثّر الإسلام تأثيرًا كبيرًا في حياة الهند الحضارية والثقافية، ويعد المسلمون اليوم ثاني أكبر مجموعة سكانية بنسبة 14% من مجمل السكان، ويشكلون همزة وصل ثقافية وروحية قوية بين الهند والعالم العربي.
مفهوم الحياة الآخرة
ركّزت الحضارتان الهندية والمصرية القديمة بشكل كبير على الحياة الآخرة. وكان المصريون يؤمنون برحلة متقنة للحياة الآخرة ويمارسون التحنيط، بينما في الهند، كانت مفاهيم التناسخ والكارما أساسية في العديد من التقاليد الدينية.
النصوص المقدسة
أنتجت كلتا الحضارتين نصوصًا دينيةً وفلسفيةً عميقةً. تقدّم كتب الفيدا والأوبنشاد في الهند ونصوص الأهرام وكتاب الموتى في مصر نظرة ثاقبة لمعتقداتهم وممارساتهم الروحية، وهذا ما يمنح الحضارتين العريقتين القوة الحضارية. وهذا إلى جانب مساهمة الحضارتين الكبيرة في المعرفة، ولا سيما في الرياضيات والعلوم. فقد قدّمت الحضارتان مساهمات كبيرة في الرياضيات والعلوم. وتفوقت مصر في الهندسة والطب، بينما حقّقت الهند تقدمًا كبيرًا في الرياضيات (على سبيل المثال، مفهوم الصفر والنظام العشري) وعلم الفلك.
أنظمة الكتابة
طوّرت الثقافتان أنظمة كتابة متطورة. استخدم المصريون الكتابة الهيروغليفية، بينما كانت حضارة وادي السند تحتوي على نص غير مفكك، واستخدمت الحضارات الهندية اللاحقة نصوصًا مثل براهمي وديفاناغاري.
التعبير الفني
تميزت كلتا الحضارتين بتقاليد فنية غنية، بما في ذلك النحت والرسم والحلي والمجوهرات. والفن المصري يتميز بتصويره التفصيلي للآلهة والفراعنة والحياة اليومية، بينما يتضمن الفن الهندي منحوتات معقدة ومعابد متقنة وأشكال رقص كلاسيكي.
الأدب ورواية القصص
تتمتع كلتا الثقافتين بتقاليد غنية في الأدب ورواية القصص. وتعكس الملاحم الهندية القديمة مثل ماهابهاراتا ورامايانا والنصوص المصرية مثل قصة سنوحي القيم والأساطير والتاريخ الهندي والمصري.
اقرأ أيضًا: هل ينبغي لمسلمي الهند أن يشعروا بالقلق إزاء نتائج الانتخابات؟
التجارب الاستعمارية
شهدت كل من الهند ومصر الحكم الاستعماري (من قبل البريطانيين والعثمانيين، ثم البريطانيين، على التوالي) في فترات متقاربة. فقد وقعت الهند تحت الحكم البريطاني المباشر في عام 1858م بعد ثورة عام 1857م الفاشلة واستمر الحكم البريطاني في الهند إلى عام 1947م. فيما خضعت مصر للحكم البريطاني في عام 1882م بعد الثورة العرابية الفاشلة، واستقل المصريون من الحكم البريطاني في عام 1922م ولكن الدولة المصرية الحديثة قامت في عام 1952م بعد الثورة المصرية لعام 1952م. وناضل الشعبان المصري والهندي نضالًا قويًا من أجل الاستقلال من الاستعمار البريطاني، وشكل هذا النضال من أجل الاستقلال هوياتهما الحديثة وعلاقاتهما الثنائية.
اقرأ أيضًا: إنشاء مناطق سكنية مختلطة في الهند حاجة الساعة
وتعكس هذه القواسم الحضارية المشتركة التاريخ الغني والمترابط للهند ومصر، وتعرض المواضيع والمفاهيم العالمية للتنمية البشرية، والتبادل الثقافي، والسعي إلى المعرفة والروحانية، وبناء عالم بلدان الجنوب معًا بعيدًا عن الهيمنة الغربية الشرسة التي تسعى إلى أن تصهر العالم كله في البوتقة الغربية أو أن تجعله عبدًا مطيعًا خاضعًا للغرب في المضمار السياسي والاقتصادي والثقافي.
أ.د. مجيب الرحمن هو رئيس مركز الدراسات العربية والإفريقية بجامعة جواهر لال نهرو بنيودلهي