أ.د. مجيب الرحمن
المخطوطات العربية المحفوظة في مكتبة خدا بخش خان بـ بتنا، عاصمة ولاية بيهار، تشكل ثروة تاريخية ومعرفية استثنائية لا تقدر بثمن، إذ تحتضن هذه المكتبة مجموعة من الكنوز الفكرية التي تلقي الضوء على التراث العربي الإسلامي في شبه القارة الهندية. وأهمية هذه المخطوطات تتجاوز كونها مجرد وثائق قديمة، فهي تُعتبر مصادر أساسية لدراسة تاريخ العلوم الإسلامية، والأدب، والفلسفة، والعديد من فروع المعرفة التي ازدهرت في الحضارة الإسلامية. وهذه المخطوطات ليست فقط سجلات مكتوبة، بل هي شاهدة على المسار الذي سلكه العلماء والمفكرون المسلمون على مر القرون لتطوير الفكر الإنساني.
وتأتي أهمية هذه المجموعة من المخطوطات من أنها تسهم في توثيق التراث العربي المكتوب، حيث نجد من خلالها سجلات مدونة لمعارف وعلوم متنوعة، بدءًا من الفقه الإسلامي إلى الفلسفة وصولاً إلى الأدب والشعر. وتعد المكتبة بمثابة جسر ثقافي يربط بين العالم الإسلامي والهندي، حيث تعكس هذه المخطوطات تفاعلات وتبادلات ثقافية ومعرفية بين العلماء والمفكرين من مناطق مختلفة من العالم الإسلامي والهند. وهذه التبادلات تظهر بشكل جلي في النسخ التي أعدها الخطاطون المهرة، والذين قدّموا إسهامات فنية إلى جانب القيمة المعرفية.
وإلى جانب القيمة العلمية، تكتسب هذه المخطوطات أهميةً فنية كبيرة، حيث تتميز بعض المخطوطات بالزخرفة الدقيقة والخطوط الجميلة التي تظهر البراعة الفنية والإبداع الجمالي. وإن هذه الأعمال الفنية تعكس تقاليد عريقة في فنون الكتابة والزخرفة الإسلامية التي ازدهرت في الحضارات الإسلامية المختلفة. وبالتالي، لا تمثل هذه المخطوطات مجرد مواد بحثية ومعرفية، بل هي أيضًا أعمال فنية تجسد تطور الفنون الإسلامية وتنوعها عبر العصور.
ويساهم هذا الإرث الثقافي المتمثل في المخطوطات النادرة في تعزيز الحوار الحضاري بين الأمم، حيث تستقطب المكتبة الباحثين من مختلف أنحاء العالم لاستكشاف كنوزها والاستفادة منها في دراساتهم. وفي النهاية، تبقى مكتبة خدا بخش خان في عاصمة ولاية بيهار، مدينة بتنا، مرجعًا علميًا وفنيًا فريدًا يعكس العلاقة المتينة بين الشرق والغرب، ويجسد روح التواصل الثقافي والمعرفي بين الحضارات.
وتشمل المخطوطات العربية في مكتبة خدا بخش خان مجموعةً واسعةً من المواضيع التي تُظهر مدى تنوع الفكر العربي والإسلامي خلال العصور المختلفة. ومن أبرز هذه المواضيع:
1.الفقه والعلوم الدينية: تضم المكتبة عددًا كبيرًا من المخطوطات المتعلقة بالفقه الإسلامي وأصوله، بالإضافة إلى كتب الحديث والتفسير والعلوم القرآنية. وهذه المخطوطات تساهم في فهم تطور الفكر الفقهي الإسلامي في شبه القارة الهندية ودوره في تشكيل المجتمعات الإسلامية.
2.العلوم والفلسفة:تحتفظ المكتبة بمخطوطات تتناول موضوعات متنوعة في الفلسفة الإسلامية، بما في ذلك أعمال الفلاسفة العرب مثل الفارابي وابن سينا وابن رشد. كما تحتوي المكتبة على مخطوطات علمية مهمة في مجالات مثل الطب، والفلك، والرياضيات، والكيمياء، حيث تعكس هذه المخطوطات الدور الريادي الذي قام به العلماء العرب في تطوير هذه العلوم.
3. الأدب والشعر:تشتهر المكتبة أيضًا بمجموعتها من المخطوطات الأدبية التي تشمل أعمال شعراء كبار مثل المتنبي وأبي تمام والشاعر الفارسي عمر الخيام. كما تحتوي على قصائد ملحمية وشعر صوفي يعكس تنوع التجارب الأدبية في الحضارة الإسلامية.
4. التاريخ والجغرافيا:تحتفظ المكتبة بمخطوطات تاريخية تتناول تاريخ العالم الإسلامي والهند في العصور الوسطى. كما تحتوي على كتب في الجغرافيا، تُظهر صورة للعالم كما كان يُنظر إليه من قبل العلماء العرب في تلك العصور.
5. اللغة والنحو:هناك مخطوطات تهتم باللغة العربية وقواعدها، مثل كتب النحو والصرف التي ساعدت في تطور اللغة العربية وتعلمها. كما تحتوي على معاجم لغوية ساعدت في الحفاظ على الثروة اللغوية العربية.
القيمة الثقافية والعلمية
لا يمكن التقليل من أهمية هذه المخطوطات من الناحية الثقافية والعلمية، فهي تمثل سجلاً مهمًا للفكر الإنساني خلال العصور الوسطى وما بعدها. ويمكن أن يقوم الباحثون من خلالها باستكشاف التراث العربي والإسلامي في مجالات عديدة، بما في ذلك الفكر الفلسفي والعلمي والأدبي والديني.
وتُعد مكتبة خدا بخش خان مرجعًا حيويًا للباحثين في الدراسات العربية والإسلامية، سواء في الهند أو على مستوى العالم. وتساهم هذه المخطوطات في تعزيز الفهم المشترك بين الثقافات المختلفة، حيث تقدّم صورة واضحة عن مدى تأثير الفكر العربي على الثقافة الهندية، والعكس صحيح.
بعض أهم المخطوطات العربية في المكتبة
"الجامع الصحيح" للإمام البخاري: هذا الكتاب هو أحد أمهات كتب الحديث في الإسلام، ويُعتبر من أكثر الكتب أهمية في دراسة الحديث النبوي الشريف. ومخطوطات الطب لابن سينا: تحتفظ المكتبة بنسخ من أعمال العالم والفيلسوف ابن سينا، مثل "القانون في الطب"، والذي كان مرجعًا أساسيًا في الطب خلال العصور الوسطى. والمجسطي" لبطليموس: هذه النسخة من العمل العلمي الكلاسيكي، والمترجمة إلى العربية، تحتوي على دراسات في الفلك والرياضيات، وهي دليل على التراث العلمي الذي انتقل إلى العالم الإسلامي. وأعمال الفيلسوف الفارابي: المكتبة تحتفظ بأعمال للفيلسوف العربي الفارابي، الذي ساهم بشكل كبير في تطور الفلسفة الإسلامية والفكر العقلاني. ومخطوطات الأدب والشعر: تشمل المكتبة مخطوطات تحتوي على أعمال شعرية لأشهر الشعراء مثل المتنبي وأبي تمام، وتعتبر ذات قيمة كبيرة في دراسة الأدب العربي.وهذه المخطوطات ليست فقط مصدرًا تاريخيًا مهمًا، ولكنها أيضًا ذات قيمة علمية وأدبية تعكس مدى التأثير الذي تركه العلماء والفلاسفة العرب على الفكر العالمي.
الجهود المبذولة للحفاظ على المخطوطات
نظرًا لأهمية هذه المخطوطات، فقد بذلت مكتبة خدا بخش خان جهودًا كبيرة للحفاظ عليها من التلف. ويتم حاليًا استخدام تقنيات حديثة لترميم المخطوطات وحفظها في بيئة ملائمة تضمن بقاءها للأجيال القادمة. كما أن المكتبة تعمل على رقمنة جزء من مخطوطاتها لتسهيل وصول الباحثين إليها عبر الإنترنت، مما يساهم في نشر هذا التراث الثقافي على نطاق أوسع.
اقرأ أيضًا: متحف سالار جونغ يضم أكثر من 2500 مخطوطة باللغة العربية
وتشكل المخطوطات العربية في مكتبة خدا بخش خان في بتنا إرثًا ثقافيًا وحضاريًا يربط بين الشرق والغرب، ويعكس دور العرب والمسلمين في تطوير المعرفة الإنسانية. وهذه المكتبة ليست مجرد مستودع للكتب، بل هي رمز للتواصل الثقافي والعلمي بين الحضارات، وتستحق الاهتمام والدراسة للحفاظ على هذا التراث الثري ونقله إلى الأجيال المقبلة.
أ. د. مجيب الرحمن هو رئيس مركز الدراسات العربية والإفريقية بجامعة جواهر لال نهرو، نيودلهي