د. محمد وثيق الندوي
يُحتفل باليوم الوطني للمعلمين في الهند في 5 سبتمبر من كل عام، ويصادف ذكرى ميلاد الدكتور سارفيبالي رادهاكرشنان، الفيلسوف البارز والرئيس الثاني للهند. هذا اليوم يخصص لتكريم المعلمين وتقدير دورهم في تشكيل مستقبل البلاد من خلال التعليم. وأصبح هذا اليوم مناسبة للاحتفاء بجهود المعلمين في تحسين حياة الطلاب وتعليمهم ليس فقط المواد الأكاديمية، بل أيضًا القيم الأخلاقية والاجتماعية. وبهذه المناسبة السعيدة، يُظهر هذا المقال التقدير الكبير للأستاذ واضح رشيد الحسني الندوي ويذكّر بدوره في إعداد الأجيال.
كان الأستاذ محمد واضح رشيد الحسني الندوي -الذي صحبتُه عشرين سنة أستقي من معينه العلمي الثر، وأنهل من منهله العذب- من صفوة المعلمين الذين صنعوا التاريخ، وأدّوا دورًا بارزًا في إعداد الأجيال، وخلفوا آثارًا باقية وملموسة في مجال التعليم والتربية والفكر، كما كانوا قدوة صالحة في مختلف مجالات الحياة. فكان الأستاذ الندوي نموذجًا مثاليًا في كل مجال من مجالات الحياة الإنسانية، وكان أبًا مثاليًا، وأخًا مثاليًا، ومعلمًا مثاليًا، ومربيًا مثاليًا، وكان يعتني اعتناءً بالغًا بالجانب التربوي في تدريسه وتعليمه وكتاباته، وكان يقلقه ما يراه من إهمال وعدم عناية بالجانب التربوي في العالم الإسلامي، ومن عدم التناسق والتوازن في مراكز العلم والتعليم، فيقول وهو يشير إلى ذلك في كتابه "إلى نظام عالمي جديد":
"تقوم سياسة التربية والتعليم بإعداد خطوط تعين صورة الجيل المقبل، وتكون ملامحه، وتعين أدواره وقدراته في مجال أوسع وأشمل من الحياة، فتقتضي قدرات هائلة وذوقًا عاليًا ودراسة دقيقة لطبيعة الإنسان وطموحه ومواهبه، ولكن من شقاء العالم الإسلامي اليوم أن قادة الفكر والسياسة وعلماء التخطيط والبناء، وخبراء التعليم والتربية يغفلون هذا التناسق لإهمالهم أوجهلهم بطبيعة الشعب المسلم وطموحه في حياته، وأفكاره ومشاعره وتاريخه، وذوقه، فكانت النتيجة أن الشعوب في الدول الإسلامية حائرة بين ما تؤمن وبين ما تمارس، وبين ما تسمع وتلقن أثناء التربية المنزلية، وبين ما تشاهد خارج المنزل" (إلى نظام عالمي جديد، ص:288).
وكان الأستاذ واضح الندوي لا يركّز على كتاب خاص، وإنما كان يجعله وسيلة لدراسة الموضوع، فكان تركيزه على الموضوع لا على الكتاب، وكان هذا التركيز الخاص على دراسة الموضوع، والجامعية والشمول الذي كان يتميز به منهجُ تدريسه، يخلق في المتعلم ملكة خاصة للاستقراء واستخراج المسائل، وذهنًا حادًّا قاهرًا.
وكان يحضِّر دروسه في جِدّ، ويلقيها في أمانة، ويوثّق صلته بتلاميذه، فهم أبناؤه البررة وهو والدُهم المحبوب، لا يكتفي معهم بعلاقته العلمية فحسب؛ بل يتعرف أحوالهم العائلية، فيحل مشاكلهم الداخلية، ويفرج أزماتهم النفسية.
وكان مربيًا مثاليًا في حسن التربية ومكارم الأخلاق؛ يعامل تلاميذه بلطف، ويعتنى بتربيتهم وتثقيفهم بوجه خاص، فلم يكن يكتفي بتدريس المقررات الدراسية، بل كان يعلّم موادا مقررة في المنهج الدراسي في المرحلة العالمية والتخصص، من الأدب العربي وتاريخه، والإنشاء، والفكر الإسلامي، وتاريخ الحضارة الإسلامية، ويوجهنا نحن الطلبة إلى مصادر تلك العلوم والفنون، من كتب الأقدمين والمعاصرين، أمثال الجاحظ، وابن قتيبة، والمبرد، والجرجاني، وابن خلدون، وابن هشام، وعباس محمود العقاد، وأحمد حسن الزيات، والدكتور طه حسين، والدكتور أحمد أمين، وعلي الطنطاوي وغيرهم، نستقي من سواقي أدبهم المعرفة والقدوة. وكان صانع الرجال، فتخرج على يديه آلاف من العلماء والمدرسين والكتاب باللغة العربية واللغة الأردية، على مدى عقود من الزمن، فكان أستاذًا فاضلاً فريدًا من نوعه، ومربيًا عطوفًا يحسب كل واحد من تلاميذه أنه أخصهم به، وأقربهم إليه، وكان أبيّ النفس، عف اللسان، عابدًا، تقيًا، زاهدًا في الدنيا، مكثرًا من تلاوة القرآن الكريم، متدبرًا لمعانيه، مستلهمًا منه أفكاره وأساليبه في التعامل مع تلاميذه وزملائه ومحبيه، وفي كتاباته أيضًا، وكان محبًّا لنبي الإسلام عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، ومتبعًا لهديه في حياته.
وكان يواظب على دروسه، ويتعهد الموضوعات التي يدرسها، ويتابع المواد والكتب المتعلقة بها، ولا يضيع وقته ووقت طلابه فيما لا يعود بفائدة، ولا يصرف نفسه ولا غيره عن الموضوع إلى غيره رغم خطورته وأهميته، فكنا نحن الطلبة نفرح ونلتذ بمحاضراته في الفصل وننتظرها، مع اهتمامه وعدم غيابه إلا لضرورة قصوى، فكان يذوقنا الأدب العربي، ويبهر عقولنا وأسماعنا بجواهر حكمه، حتى نتمنى أن يطول درسه ولا ينتهي، فهو قدوة في صمته، وقدوة في جواهر كلامه وحكمه.
وقد عرف الأستاذ الندوي بمهارته في تدريب الطلاب على الكتابة بالعربية مهارة عديمة المثال ومنقطعة النظير، حينًا يكلفهم بالترجمة من الأردية أو الإنجليزية إلى العربية، وحينًا آخر يأمرهم بإنشاء المقالات وكتابة التعليقات، وتقييد الخواطر واليوميات ساعيًا أن يعوِّدهم على الكفاح والمصابرة، ويبعدهم عن الكسل وحب اليسر والسهولة، وكان في ذلك كله يراعي ما يوافق مدارك الطلاب وتسيغها عقولهم، وكانوا يتعلمون منه كل يوم فكرة جديدة أو كلمات جديدة أو تعبيرات جديدة، فيفرحون بها ويستعيدونها ويتذاكرونها، ويشعرون إثر كل درس من دروسه بنمو في العقل وتطور في المعرفة وتقدم في الكسب والتحصيل.
وكان من عادته تشجيع الطلاب والاعتناء بالأضعف منهم في القراءة، ويقوم سلوك الطلبة، ويربيهم تربية خلقية، ويبني سيرتهم، ويصلح ما يلمسه فيهم من صفات غير لائقة، وأعمال غير مرضية بأسلوب حكيم، وكان بهذا المنهج في السلوك والتعامل يربي المتصلين به على الابتعاد عن الغيبة والنميمة، والحسد والضغينة، والانتهاء عن نشر الشائعات، وسوء الظن.
وكان بابه مفتوحًا على مصراعيه لكل شخص من الصباح إلى المساء، يستفيد منه الطلبة والأساتذة، وكان يفكّر دائمًا في توجيه تلامذته وتوعيتهم وبناء شخصيتهم، ويقول: قرّب النجباء والمولعين بالعلم من الطلاب واستخدمهم للعلم حتى يتعلموا ويستفيدوا، وكل ما كتبت في "الرائد" كان على تشجيعه وترغيبه وتربيته، كنت أترجم الأخبار أو أعد تقارير وأضعها على طاولته وهو يهذبها ويعلق عليها العنوان.
فكان الشيخ محمد واضح الندوي معلمًا مثاليًا ومحببًا لدى تلاميذه ومستفيديه، وإن إنتاجه البشري الضخم –كما كتب أحمد تلاميذه- "يفوق إنتاج كل من عاصره من العلماء والمربين والأساتذة كمًا وكيفًا في دار العلوم لندوة العلماء، وهذه هي الميزة التي تميز بها بين زملائه من الأساتذة والمربين، فكان أستاذًا فاضلاً فريدًا من نوعه، ومربيًا عطوفًا يحسب كل واحد من تلاميذه أنه أخصهم به، وأقربهم إليه، وكان أبيّ النفس، عف اللسان، عابدًا، تقيًا، زاهدًا في الدنيا، مكثرًا من تلاوة القرآن الكريم، متدبرًا لمعانيه، مستلهمًا منه أفكاره وأساليبه في التعامل مع تلاميذه وزملائه ومحبيه، وفي كتاباته أيضًا، وكان محبًّا للنبي عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، ومتبعًا لهديه في حياته".
اقرا أيضًا:
إيه. بي. جيه. عبد الكلام: الشخصية الملهمة للمسلمين
صناعة الحرير في بهاجالبور: الأهمية الاقتصادية والثقافية
وكان الأستاذ الندوي يقول إنه لا بد أن تكون قدوة صالحة وتكون شخصية متميزة ذات عفاف وخلق، لأن الطفل، أو المتعلم لا يقتبس الأفكار ومنهج الحياة من الكتب أكثر مما يقتبسها من أساتذته وجوه التعليمي، وبيئته التي يعيش فيها، وحياة المثقفين والعقلاء، وأصحاب المناصب العليا، الذين لهم نفوذ على الشعب، ويديرون مختلف قطاعات الحياة، فإذا كانت حياة الأستاذ، ومنهجه في حياته، وأفكاره، وتصوراته عن الحياة والإنسان، ومسؤولياته، متعارضة مع الأفكار المقروءة، فإن الطالب يثور على ما يقرأ، لأن الإنسان يثق بالمشاهدة أكثر مما يثق بالسماع، وتترك أفكار الأستاذ وسلوكه في حياة الطالب آثارًا عميقة، ولا تتركها الكتب والعلوم المقروءة، وتتسرب إلى ذهن الطالب بدون شعوره، فكثيرًا ما يقلد الطالب لهجة أستاذه، وذوق أستاذه في الأكل والشرب، وخاصة إذا كانت شخصيته متميزة.
د. محمد وثيق الندوي هو أستاذ كلية اللغة العربية وآدابها بدار العلوم لندوة العلماء، ومدير التحرير لصحيفة "الرائد" بندوة العلماء في لكناؤ.