محمد نعمان الدين الندوي
إن مساهمة مولانا أبي الكلام آزاد في حركة تحرير البلاد من براثن الاستعمار، لم تكن على الهامش، أو كالمتفرج .. الذي يتمتع بمشاهدة المناظر أو الأدوار التي تُلعب وتمارَس على المسرح أو المنصة، وإنما كانت مساهمة قيادية فاعلة موغلة في صميم الكفاح، فقد كان من طليعة قادة حركة التحرير، وكان له فيها حظ الأسد. ولا شك أن تاريخ حركة التحرير في الهند يكون ناقصًا مبتورًا إذا خلا من ذكر بطولة مولانا آزاد وصنائعه وتضحياته، فقد أبلى في ذلك بلاءً حسنا، وعانى من السجن وتقييد حركاته وتنقلاته، والتضييق والتشريد و.. و.. ما عانى.
في سنة 1916م تم حبسه -لأول مرة- في بيته، ثم زج به في السجن ست مرات إلى 1945م، وهكذا قضى في السجن عشر سنوات مجموعةً، على أن السجن لم يستطع الحدّ من قوة ثباته، أو زلزلة صموده، أو إطفاء جمرة عزمه أو لهب بطولته، بل زادها اشتعالًا ونارها ضرامًا:
لا تزدر الليث الحبيس فربما
عادت (وقد شهد الوغى) وثباته
ولم يكن مولانا آزاد يقضي وقته في السجن نائمًا أو عاطلًا عن أعماله الروتينية القِرَائيّة والكتابية، بل إنه كان من المؤمنين بنظرية من قال : "أنا لا أحب النوم ولا أستريح إلى الراحة"، فراحة العاملين الجادّين في عدم الاستراحة.
فكان مولانا آزاد ملتزما بالتقيد ببرنامجه اليومي في السجن، التزامه به خارج السجن، وكان لا يحيد عن ذلك قيد أنملة، فكان يستيقظ -في السجن أيضًا- في الصباح الباكر كعادته الدائمة في سفره وحضره، وأول ما يستيقظ يغتسل، حتى يُبعد عنه الكسل وأثر النوم، ثم يُعِدّ الشاي -بنفسه- إعدادًا خاصًا، وطريقته أن ورق الشاي يُلقٰى أولاً في الإبريق، ثم يُلقٰى فيه الماء المغلي، ثم يغلق فم الإبريق غلقًا محكمًا، ويُترك عدة دقائق، ثم يُفتح الإبريق، ويُحَرّك الشايُ بالملعقة، ثم يغلق مرة أخرى، وبعد ثوان يُصب منه في الفنجان، ويسمى هذا الشاي -لدى أصحاب الذوق- بـ"دم كي چائے" في الاصطلاح الأردي، وكان مولانا لا يستخدم إلا السكر الصيني المقطع قطعًا صغيرة مربعة، وكذلك "ورق الشاي" الممتاز، فكان له ذوق سامٍ لطيف في ذلك، حيث كان يستقدم من آسام أعلى أنواع الورق وأغلاه.
ثم كان يبدأ شرب الشاي، ولا يكتفي بفنجان واحد .. بل يشرب فنجانين .. وبعد أن يكمل نصابه ويرضي عادته من شرب الشاي، كان أعظم ما يكون خفة روح، ونشاط ذهن، ونضارة فكر، وكمال استعداد للقراءة والكتابة، فيقبل عليهما، فينطلق بل يجرى قلمه بسرعة: "كنكورد"، فينثر اللآلى والدرر على القرطاس، ويكتب الصفحات تلو الصفحات، وكلها آية في الإبداع الإنشائي، والروعة الكتابية، وما "غبار خاطر" إلا من إبداعات "السجن" بقلعة "أحمد نجر"، فهذا الكتاب من أروع ما دبجه يراع مولانا آزاد، وآخر ما صدر عن قلمه السيال، ويحتوي رسائل وجهها مولانا من السجن إلى صديقه الشيخ حبيب الرحمن خان الشيرواني، والحقيقة أن مولانا خاطب صديقه -عبر هذه الرسائل- في عالم الخيال، أودعها خواطره، التي كان يفيض بها خاطره في السجن، وجعل هذه الرسائل وسيلةً للتسرية عن نفسه، وتخفيفِ وطأة الظروف، فبالبوح بما تعاني النفس -مما يقلقها من الهم والغم- شفاء وترويح للقلب، ومن ثم.. سمى مجموعة الرسائل هذه: "غبار خاطر" أي حاول بها إزالة غبار الخاطر والتنفيسَ عن القلب، والرسائل هذه -إلى كونها نماذجَ عالية من الأدب والبيان، وجديرةً بالاحتذاء والتقليد- من أروع ما يجلي عبقرية مولانا آزاد، ويظهر قدرته الأدبية والفنية، ويكشف عن دراسته الواسعة وذاكرته العجيبة وذكائه الخارق، حيث كان لا يعتمد في كتابة الرسائل إلا على ذاكرته، فلم يكن هناك -في السجن- من الكتب أو المراجع ما يرجع إليه.
والحقيقة أن هذه الرسائل كانت بمثابة المذكرات، ومعلوم أن كتابة المذكرات وتعبير الإنسان عما يحسه أو يمر به يمثل حالة استشفائية.
مولانا آزاد قائدًا
قال بعض رجال الإصلاح والتربية:
"الزعماء ثلاثة: زعيم صنع نفسه، وزعيم صنعته الظروف، وزعيم صنعه الله على عينه، يحمل الرسالة، ويوقظ الأمة، ويحمل راية الإسلام، ويهتف بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحمل رسالة السماء".
المطّلع على حياة مولانا ٱزاد، والقارىء لترجمته بحياد، لا يسعه إلا أن يصنفه ضمن النوع الثالث من أنواع القادة الثلاثة المذكورين فيما أعلاه، فقد قيضه الله في حينه ومكانه المناسبين، ليضطلع بأعباء مهام، ما كان ليقوم بها أحد غيره، لأن الله تعالى أعده لها وقدر له القيام بها بتقديره الحكيم، و-مِن ثَم- خصه بكفاءات ومواهب غير عادية، لا يهبها إلا من أراد به نفعا عظيما لعباده.
فمن هنا، يُعتبر ٱزاد قائدًا عظيمًا جليلًا، له ميزة وفضل على غيره من القادة والزعماء، حتى قيل إن مولانا ٱزاد أعظم قائد ظهر في الهند وما جاورها في العصر الأخير، وكانت الهند -على بكرة أبيها- قد أجمعت على التسليم بقيادته إجماعًا قلّما يتفق لأحد، فأهل الهند كانوا اتفقوا على ما خصه الله به من المؤهلات القيادية، ما لا يحظى به قائد إلا نادرًا، وكان كبار زعماء البلاد -من الهندوس والمسلمين- يستشيرونه ويستنيرون بآرائه في أهم القضايا، فكان يمدهم برأيه فيها -لساعته .. وبدون إعمال فكر- مما يجعلهم يؤمنون بما وُهِب من عمق النظر، وسرعة الفهم، ونفاذ الفكر، وسعة الإحاطة، وقوة البصر، وحدة الخاطر، وسداد الرأي.
وإن آزاد لم يكن رجل السياسة، وإنما كان رجل العلم، ودُودَ القراءة والكتابة، وأعتقد أنه يكون دخل السياسة على مضض، لا طائعًا راضيًا ..، لأنه لما رأى وطنه محتلًا، تطأ أرضَه أرجل الأجنبيين، وينهب خيراته المحتلون، شعر بأن عليه واجبًا مقدسا يفرضه عليه دينه، وتحتّمه عليه وطنيته، واجبَ تطهيرِ بلاده من الاحتلال الغاشم، فعليه مسؤولية مزدوجة .. دينية ووطنية.
جناية السياسة على العلم والأدب
فمن هنا .. دخل السياسة، وخاض المعركة .. وجند جميع قواه ومواهبه لتحرير البلاد، فظل يناضل ويكافح ما لم يحرر الوطن.
فمن أجل وطنه، ولصالح بلاده، ضحى بما جُبِل عليه من عشق العلم، والغرام والهيام بالكتاب، وفضل وطنه على الاشتغال بالعلم، ودخل معترك السياسة، بل في تعبير أصح: تفرغ لخدمة وطنه، وجعل همه الرئيس وشغله الشاغل: الوطن .. والوطن ..، وكان دخوله السياسة أو قل: مساهمته في حركة تحرير البلاد خيرًا عظيمًا لسياسة بلاده، وبمثابة وقود تنشيط لحركة التحرير .
ولا شك أن مولانا آزاد كان قوة مؤثرة في سياسة البلاد، اكتسب هذه القوة بعبقريته، وعظمته الشخصية، وموقفه الحاسم الرافض للاحتلال.
ولكن -هناك- حقيقة أخرى مُرة .. يجب أن تسجل ويصرح بها .. أن خوضه في السياسة نفعها، فقد وجّهها بثاقب نظره، وبصيرته الفذة، وبهمته العالية، وكان يَعتبر توجيهَ بلاده -عبر السياسة وخوضه في معركة التحرير- حقًا لوطنه عليه، ولا شك أنه بذلك أدى حق الوطن عليه، والوطن -بدوره- مدين له في تحرره من الاستعمار، الذي كان يئن تحت نيره، ويظل يشكر له صنيعته هذه مدى الدهر.
وفي مقابل ذلك حقيقة أخرى -أيضًا- لا ترفض .. وهي أن مولانا آزاد قد أحسن إلى بلاده حينما قرر دخول السياسة، ولكنه لم يحسن إلى نفسه أو إلى الحركة العلمية والأدبية، فبقدر ما ربحت البلاد من دخوله السياسة، خسرت حركةُ العلم والأدب من حرمانها الاستفادة من نتاجه العلمي والأدبي، فدخول آزاد السياسة وقف سدًا منيعًا أمام رحلته العلمية، ومنع قلمه من نثر الدرر، وإثراء المكتبة الإسلامية بما كان أفاض الله عليه من التدفق المعرفي والنبوغ العقلي، والابتكار القلمي.
فمن ثَم نستطيع أن نقول إن السياسة جنت على العلم والأدب، وتلك خسارة أي خسارة للساحة العلمية والتيار الأدبي .. وإن لله في شؤونه حكمة .. وكل شيء بتقدير العزيز الحكيم العليم.
ويقول بعض أصحاب العلم والنظر أن مولانا آزاد لو لم يدخل السياسة لكان من أبرز أعلام العلماء لا من تاريخ الهند .. بل من تاريخ الأمة كله، ولكن مشيئة الله غلبت .. وهو فعال لما يريد، ولا يسأل عما يفعل .
نبذة من آرائه وأقواله
كما مر أن مولانا آزاد كان مفكرًا نابغة، صاحب عقلية حرة ذات إبداع وابتكار في جميع الأمور والقضايا إلا الدين وما يتعلق به، فكان فيه متبعًا ملتزمًا بالمنهجية المأثورة المدعومة بالكتاب والسنة، فلا يحيد قيد أنملة عن المبادئ والثوابت.
وأما في قضايا غير الدين، فكان له فيها رأي ونظر، وابتكار وابتداع، والكتب والمجلات مليئة بآرائه وأقواله في مختلف الموضوعات، واخترت منها نتفًا، أوردها فيما يلي:
1. اعتزازه بالإسلام، وحبه لوطنه
"أنا مسلم، وأعتز بالشعور بأنني مسلم، وأنا سعيد بأن لي حظًا من الموروثات والخصائص الرائعة لثلاثة عشر قرنا من الإسلام، ولست براض عن الضياع لأصغر جزء من أجزائه، فأنا كمسلم في الإطار الديني، ولي ذاتية خاصة، ولا يمكن أن أحتمل أن يتدخل فيها أحد.
ولكن .. مع هذه المشاعر والأحاسيس.. أحمل شعورًا آخر، أحدثته حقائق حياتي، لا يحول بينه وبيني روحُ الإسلام، بل إنه يرشدني في هذا الطريق، وهو أنني أعتز بالشعور بأنني هندي، وعنصر هام من القومية الهندية المتحدة، التي لا تتجزأ".
2. موقفه من النظرية القومية
كان مولانا آزاد معارضًا للنظريتين القوميتين معارضة شديدة، ومؤيدًا للوحدة القومية تأييدًا بالغًا، وكان يقول: "هدفي الوحدة بين المسلمين والهندوس، وأحب أن أقول للمسلمين: من الواجب عليهم أن يقيموا صلة حب وإخاء بالهندوس".
اقرأ أيضًا: دور المسلمين الهنود في كفاح تحرير الهند
الحقيقة أن وحدة الأمة كانت عنده أهم من الحرية، فمن أقواله المشهورة بهذا الصدد:
"إذا نزل ملك من السماء على "منارة قطب"، وأعلن من قمتها أنه يمنحنا الحرية خلال 24 ساعة على حساب الوحدة (عوضا عنها)، فأنا أرفض مثل هذه الحرية، وأتنازل عن مثل هذه الحرية، فإنه إذا تأخر نيل الحرية، كان ذلك خسارة على الهند وحدها، ولكن إذا نِيْل من وحدتنا، وأُخِلّ بمسارها، كان ذلك خسارة على العالم الإنساني قاطبة".
فلقد ترك مولانا آزاد بصمات في التاريخ، لا تمحى عبر الدهور، والحقيقة أن آزاد كان رجلًا من رجال التاريخ، بل بطلًا من أبطاله، بل رائدًا من رواده، بل صانعًا من صانعيه.
و إذا لم يُعَدَّ مثل آزاد صانعًا للتاريخ .. فمن يُعدُّ يا ترى ..؟
عقم النساء فما يلدن شبيهه
إن النســـــــــاء بمثله عُقم
محمد نعمان الدين الندوي هو أستاذ الأدب والتفسير في دار العلوم لندوة العلماء بلكناؤ، أوترابراديش، الهند