مجيب الرحمن
مع إطلالة شهر رمضان، ينتعش قلب المسلم بفيض من الإيمان، ليضفي على أيامه الثلاثين سحرًا خاصًا وروحانية عميقة. ومن دون شك، فإنه شهر الخير والبركة، الذي يضم في طياته الرحمة والمغفرة وعتق الرقاب من النار، فطبيعي أن تزداد قلوب المؤمن خشوعًا وتقربًا إلى الله، وتتنافس الأنفس في الطاعات، كأنها تبحث عن الصفاء والسكينة والهدوء وسط ضجيج الحياة.
وفي بلدنا الحبيب الهند، كما في باقي أرجاء العالم الإسلامي، تبنض الأحياء الإسلامية بمشاهد إيمانية حية، حيث تنطلق أصوات التلاوة والتكبير من المساجد، وتتزين الشوارع بأضواء ملونة، ما يبعث في النفوس إحساسًا بالفرح والطمأنينة، وشعورًا عميقًا بالنور الإلهي الساطع في الآفاق والأنفس. وتنتعش الأسواق بالأنشطة، وتعجّ المحال التجارية بالمتسوقين الذين يتهافتون على شراء التمور والفواكه والمشروبات التقليدية التي تضفي مذاقًا خاصًا على مائدة الإفطار.
وقبيل غروب الشمس يهدأ ضجيج الشارع قليلًا، ويتوجه الصائمون إلى بيوتهم أو إلى المساجد، حيث يجتمعون مع أفراد الأسرة حول مائدة الإفطار، وهي ساعات محملة بمعاني العطف والوئام. هنا، لا فرق بين كبير وصغير، أو غني وفقير في تناول أول لقمة إفطار، شاكرين لنعم الله وآلائه التي لا تعد ولا تحصى. وحين يصدح الأذان تمتد الأيدي إلى عباب التمر والماء، تليها أطباق معتادة تملأ الصحون بالألوان والنكهات التي تعبق بعبق التاريخ والتراث والإيمان الرباني. وهنا في حضن البيت والعائلة، يشعر الناس بالحماس والشكر والحميمية، وفي هدوء يكتشفون إحساسًا عميقا بالامتنان إلى ما كرمه الله سبحانه وتعالى بنعمة الإيمان.
وإن رمضان ليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب، بل هو بمثابة مدرسة روحية تعيد صياغة الإنسان من داخله. وإنه وقت لتغذية الروح، وصقل العزيمة، ومنح القلب فرصة جديدة للاقتراب من الخالق بروح أنقى ونفس أكثر هدوءًا. وفي هذا الشهر، تتجدد العزائم، ويصبح المسلم أكثر إقبالًا على العبادة، وأكثر رغبة في العطاء، وأكثر إدراكًا لمعنى الصبر والشكر. فكل ليلة، ومع كل ركعة من صلاة التراويح، ومع كل دعاء يرفع إلى السماء، يشعر الصائم وكأنه يحرر نفسه من هموم الدنيا، ويجد من الله من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا، ويكتنفه شعور من السلام الداخلي والطمأنينة. وهكذا، يمر رمضان كضيف عزيز، يزور القلوب قبل البيوت، وينشر في الأرواح نور الإيمان، ويغرس في النفس معاني الخير والرحمة، ليترك أثرًا لا يمحى وأملًا يتجدد مع كل عام.
أجواء رمضان في الهند: استقبال يغمره الحماس والفرح
مع حلول رمضان المبارك، يعيش المسلمون الهنود، كباقي المسلمين في العالم، أجواء الروحانية والاحتفال. فمع الإعلان برؤية الهلال، تصدح المآذن بالتكبيرات وتعم الفرحة الأحياء والمدن، وتكتسي الشوراع صور الزينة والبهرجة، رغم تنوع العادات والتقاليد الرمضانية باختلاف المناطق والطوائف الإسلامية، لكن الألفة والمحبة والوئام يبقى الرابط الوحيد الذي يجمع بين الجميع.
وفي المساجد الكبرى، مثل الجامع الكبير في دلهي، ومسجد مكة في حيدر آباد، ومسجد تالايا في لكناؤ، ومسجد ناخدا في كولكاتا، وفي مسجد بلال في بنغالورو، وفي تاج المساجد في بوفال، والمسجد الجامع في كلبا ديفي في مومباي، وفي جميع المساجد تقريبًا تمتلئ الساحات بالمصلين الذين يؤدون صلاة التراويح بخشوع، ويتفرغ كثيرون للاعتكاف في العشر الأواخر، سعيًا للبركة والمغفرة. وعلى جانب آخر، تنبض الأسواق بالحياة، حيث تنتشر البسطات التي تعرض التمور، باعتبارها ركنًا أساسيًا على موائد الإفطار، إلى جانب المشروبات الرمضانية التقليدية مثل "روح أفزا" وعصائر الفواكه الطازجة، التي تمنح الصائمين انتعاشًا بعد يوم طويل من الصيام.
رمضان بين تقاليد الطوائف الإسلامية في الهند
الهند، بتنوعها الثقافي والديني، تحتضن طوائف مختلفة من المسلمين، من السنة والشيعة إلى البُهرة والصوفيين، ولكل طائفة تقاليدها الخاصة التي تضفي طابعًا مميزًا على الأجواء الرمضانية. ففي كشمير، يمتلئ الشهر الفضيل بحلقات الذكر والتلاوة في المساجد، بينما يُعد حساء "هاريزا" وجبة رئيسة على السحور، لما يمدّه من دفء وطاقة للصائمين. وأما في ولاية كيرالا، فإن روح رمضان تتجسد في موائد الإفطار الجماعية التي تجمع المسلمين وغير المسلمين معًا، حيث تُقدَّم أطباق مميزة مثل "الباثيري" و"نانجيا باروتا" مع أطباق الكاري الغنية بالنكهات. وفي المدن الكبرى كلكناؤ، وحيدر آباد، ودلهي، وكولكاتا، ومومباي، تأخذ الأجواء الرمضانية طابعًا آخر، إذ تُقام "دورات القرآن"، حيث يختم الحُفّاظ تلاوة القرآن الكريم على مدى الشهر، فيما تزخر موائد الإفطار بأصناف شهية مثل "حليم حيدر آبادي"، و"شامي كباب"، و"غلوتي كباب"، وغيرها من الأكلات التي تُضفي على رمضان نكهته الخاصة.
ارتفاع الطلب على الفواكه في الأسواق الهندية
خلال شهر رمضان، تزدهر الأسواق الهندية بحركة تجارية نشطة، خاصة في محلات الفواكه التي تشهد إقبالًا كبيرًا من الصائمين الباحثين عن خيارات منعشة ومغذية لإفطارهم. فالتمر والفواكه الطازجة، مثل الموز والبطيخ والمانجو والعنب والرمان، تصبح جزءًا أساسيًا من المائدة الرمضانية، لتعويض ما فقده الجسم من سوائل وطاقة طوال اليوم. وإلى جانب الفواكه الطازجة، تحظى الفواكه المجففة، كالتين والمشمش واللوز، بشعبية واسعة، حيث تُستخدم في إعداد حلويات تقليدية لذيذة مثل "الخُجور بارفي" و"شاهي تُكرَى"، التي تضيف لمسة من الحلاوة والدفء إلى الأجواء الرمضانية المميزة.
احتفالات روحانية واجتماعية
إلى جانب العبادة، يشكّل رمضان في الهند مناسبة اجتماعية تُعزّز الألفة والتراحم بين المسلمين، حيث تُقام موائد الإفطار الجماعي في المساجد والمؤسسات الخيرية، وتُوزع وجبات الإفطار للفقراء والمحتاجين.
"بازارات رمضان" في المدن الكبرى تتحول إلى وجهة مفضلة للمتسوقين، حيث تعرض الملابس التقليدية مثل "الكُرتا"، و"الشيرواني"، و"الحجاب المزخرف"، إلى جانب البخور والعطور الرمضانية الفواحة. وفي العشر الأواخر من رمضان تكتظ أسواق المناطق ذات أغلبية المسلمين بالسيدات المسلمات اللاتي يملأن الشوارع والدكاكين لشراء ألبسة العيد لهن ولأطفالهن وأغراض العيد الأخرى، ويبلغ الازدحام أقصاه حتى يتعذر المشي على الشوارع لكثرة تعداد السيدات المسلمات.
وأما في ليلة السابع والعشرين من رمضان، فتقام في بعض المناطق احتفالات خاصة تعرف بـ"ليلة القدر"، حيث تتلى الأدعية والأذكار حتى مطلع الفجر، ويحرص المسلمون على تقديم الصدقات وكسوة الفقراء.
رمضان فرصة لنشر الوئام الاجتماعي
جانب مضيء آخر من شهر رمضان هو قدرته على تأليف القلوب فيما بين الهنود باختلاف أديانهم، إذ يُعَدُّ شهر رمضان في الهند فرصة ذهبية لتعزيز الوئام الاجتماعي بين مختلف الطوائف، حيث تُنظم موائد الإفطار التي يشارك فيها غير المسلمين بأعداد كبيرة، مما يخلق فضاءً من التفاعل الإيجابي والتقارب الثقافي. وهذه الموائد، التي تُقام على مستويات متنوعة، بدءًا من التجمعات العائلية الصغيرة إلى الفعاليات الاجتماعية والسياسية الكبرى، تساهم في نشر قيم المحبة والمودة وقبول الآخر. ومن خلال هذا التفاعل، تتعمق أواصر الفهم المشترك بين الطوائف المختلفة، إذ يتعرف الجميع على التقاليد الدينية والثقافية لبعضهم البعض، مما يعزّز روح التعايش السلمي ويؤكد على رسالة السلام والاحترام المتبادل في المجتمع الهندي متعدد الثقافات.
اقرأ أيضًا:
رمضان فرحة متجددة في القلوب
رمضان في الهند ليس مجرد شهر للصيام، بل هو وقت يفيض بالفرح والتقوى وروح التكافل، حيث تتداخل الروحانية مع العادات الجميلة التي تعكس ثراء وتنوّع المجتمع الإسلامي الهندي. ومع اقتراب العيد، يودّع المسلمون هذا الشهر بقلوب مليئة بالحنين، مستبشرين بالأمل أن يعود عليهم عامًا بعد عام محمّلًا بالخير والبركة.
أ. د. مجيب الرحمن هو رئيس مركز الدراسات العربية والإفريقية بجامعة جواهر لال نهرو، نيودلهي