أشفاق أحمد
كان محمد عمر القاسمي من الشخصيات التي تعتز بها الأسرة العربية والإسلامية في منطقة "سِيمانتشال" بولاية بيهار -ولاية من ولايات الهند. وقد ساهم مساهمة بارزة في إثراء الثقافة العربية والإسلامية بشتى الطرق؛ فكان كاتبًا قديرًا، وخطيبًا مصقعًا، ومصلحًا إسلاميًا، ومعلمًا ذا موهبة خاصة. كرّس حياته بإخلاص لتطور اللغة العربية، ونشر الثقافة الإسلامية، والقضاء على البدع والتقاليد الباطلة التي شاعت في المجتمع.
وتكمن أهميته في بذله جهدًا كبيرًا في تهيئة البيئة لتطور اللغة العربية وفنونها في منطقة سِيمانتشال، الواقعة في شمال شرق ولاية بيهار. ونظرًا لمساهمته في النهوض بالآداب العربية وتعزيز الثقافة الهندية، يستلزم علينا أن نُسلّط الضوء على حياة هذا الكاتب، ونناقش دوره في نشر التعليم العربي في سِيمانتشال وبعض المناطق الغربية من ولاية غرب البنغال.
وُلِد أبو عبد الرحمن محمد عمر بن محمد أبي بكر في قرية "منوهر"، بمديرية فورنيا، بولاية بيهار، في 20 أبريل 1947م. وتوفيت والدته ولم يتجاوز عمره عامًا ونصف العام. ونشأ في أسرة اشتهرت باسم "جاك خاندان"، التي عرفت بالتدين والصلاح. وهاجر أجداده من منطقة "بانكا نارائن فور" بمديرية مرشد آباد بولاية غرب البنغال، واستقروا في نهاية الأمر في قرية "منوهر"، الواقعة على ضفاف نهر بهَسْنَة. وانتقل الشيخ محمد عمر إلى مديرية مالدة بغرب البنغال، واستقر في قرية "شريش بونا"، "هريش تشانندرة فور"، وذلك بسبب التزامه بوظيفته الحكومية كمعلِّم في المدرسة الثانوية بقرية "تال بانغروا".
وكان محمد عمر القاسمي عالِمًا دينيًا وكاتبًا مجيدًا. عُرف بين معاصريه بفصاحة اللسان وبلاغة البيان، وباطّلاعه الواسع على الأدب العربي وشتى فنونه. إنه كرّس حياته لنشر اللغة العربية وترسيخ مكانتها بين طلبته، وتشهد مؤلفاته على جهوده المضنية في مجال تطور الآداب العربية في منطقته.
وتلقى تعليمه الابتدائي في مسجد قريته "منوهر" على يد الشيخ عبد الغفور، كما تعلّم منه مبادئ اللغات العربية والفارسية والأردية. ثم درس العلوم العربية والإسلامية على يد أساتذة "المدرسة الفرقانية" في مديرية مالدة، ومدرسة حماية الإسلام في "سنبر شاه"، بمديرية كتيهار، و"دار العلوم تال بانغروا" في مالدة، و"مدرسة إصلاح المسلمين" في "تشيتورية" بمديرية كتيهار، و"مدرسة فيض الغرباء" في "تشيمني بازار" بمديرية فورنيا.
ودرس القاسمي في مدرسة "فيض الغرباء" عدة أمهات الكتب، مثل "تفسير البيضاوي"، و"صحيح البخاري"، و"صحيح مسلم"، و"حجة الله البالغة" لشاه ولي الله الدهلوي، وذلك بإشراف الشيخ أبي الفضل عبد الغفور الندوي. ومن كبار أساتذته الآخرين: الشيخ ألطاف حسين السلفي، والمفتي عبد المنان الجلالفوري، والشيخ شريعة الله الرحماني، والشيخ عبيد الله الديوبندي، والشيخ حضرت علي البهوتنوي.
وفي عام 1965م، التحق محمد عمر بـ "دار العلوم" في ديوبند بولاية أوترا براديش. ودرس على يد أساتذة هذه الدار الشهيرة الكتبَ المدرسية المعروفة، وتخرج فيها عام 1968م. ومن أبرز أساتذته في دار العلوم بديوبند: الشيخ خورشید عالم، والشيخ نصير خان، والشيخ وحيد الزمان الكيرانوي، والشيخ المقرئ حامد ميان، والشيخ بهاء الحسن، والشيخ سالم، والشيخ نعيم، والشيخ فخر الدين، والشيخ فخر الحسن، والشيخ شريف الحسن، والمفتي ظفير أحمد. وفي عام 1974م، تقدّم لاختبار نيل شهادة الفضيلة الذي تُجريه "هيئة تعليم المدارس الدينية" في ولاية غرب البنغال، ونجح فيه بتقدير ممتاز.
وبعد إكمال مراحله الدراسية عام 1968م، انخرط في سلك التدريس مباشرة. وتنقّل في العديد من المدارس الإسلامية في مديرية مالدة في غرب البنغال. وفي عام 1975م عيّن القاسمي مدرِّسا في إحدى المدارس العالية التابعة لهيئة تعليم المدارس الدينية في مديرية مالدة بولاية غرب البنغال، واستمر في هذه الوظيفة حتى تقاعد عن العمل في عام 2007م.
ولم تتوقف أنشطة القاسمي التدريسية والدينية والأكاديمية بعد تقاعده، بل واصل التدريس لسنوات في معهد العلوم الإسلامية في ماكيا، ومدرسة خديجة الكبرى في باراكرم شمسي، ومعهد التعليم الديني في شريفور، بمالدة، إلى جانب العديد من المدارس الإسلامية الأخرى. وقام القاسمي بتدريس بعض أهم الكتب في العلوم الإسلامية والعربية، ومنها: "تفسير البيضاوي"، و"تفسير الجلالين"، و"صحيح البخاري"، و"صحيح مسلم"، و"سنن أبي داود"، و"سنن النسائي"، و"سنن الترمذي"، و"مشكاة المصابيح"، و"بلوغ المرام"، و"المعلقات السبع"، و"حجة الله البالغة"، و"ديوان المتنبي"، و"مختصر المعاني"، و"فصول أكبري"، و"سلم العلوم"، و"شرح التهذيب"، و"القدوري"، و"المقامات للحريري"، إلى جانب كتب القواعد النحوية والصرفية.
واشتغل القاسمي بالتدريس لأكثر من أربعين عامًا، وقد تخرج على يديه عدد كبير من الطلبة، منهم من يُدرِّس في المدارس الإسلامية، ومنهم من ينشط في الحركات الإصلاحية والاجتماعية، ومنهم من يعمل بإخلاص على تطور الآداب العربية في الهند. وبالإضافة إلى الطلبة الذين درسوا عليه مباشرة، كان هناك طلبة أطلق عليهم القاسمي لقب "التلامذة بالحكم"، ومن أبرزهم: الشيخ الجليل عزير شمس، والشيخ مزمل الحق، وشيخ الحديث الحالي بجامعة دار العلوم الرحيمية في كَتْلاماري.
وكان القاسمي مولعًا بجمع الكتب، وقد أنشأ مكتبة خاصة به سمّاها "همدرد لايبريري" (مكتبة همدرد) في مسقط رأسه "منوهر"، وزوّدها بكمية كبيرة من الكتب القيّمة باللغتين العربية والأردية. وللأسف الشديد، فقد ضاع عدد كبير من هذه الكتب بعد مغادرته "منوهر" نتيجة إهمال أهل القرية. ولم يتم الحفاظ على هذه المكتبة حتى بعد نقلها إلى مدرسة دار اليتيم في "منوهر".
وبعد استقرار القاسمي في منطقة "شريش بونا"، أسس مكتبة جديدة أسماها "مكتبة مجلس الثقافة الإسلامية". مع مرور الوقت، أصبحت هذه المكتبة غنية زاخرة بعدد كبير من الكتب باللغتين العربية والأردية، تغطي موضوعات إسلامية متنوعة والفنون الأدبية، بالإضافة إلى قواعد النحو والصرف العربية. وظل القاسمي يعتني بهذه المكتبة ويواصل قراءة كتبها طوال حياته.
وأسّس القاسمي "مدرسة دار اليتيم منوهر" عام 1987م في قريته المتخلفة للغاية. وتحيط بالقرية نهر بهسنة من ثلاث جهات، مما جعل الوصول إليها صعبًا في تلك الأيام. وكان المستوى التعليمي بين أهل القرية منخفضًا جدًا؛ لأنه لم تكن في القرية مدرسة حكومية أو غير حكومية. وبدأت هذه المدرسة بأهداف سامية في مبنى متواضع، وقد تعاون في تأسيسها أهل القرية، خاصةً عمه محمد يونس. ولسوء الحظ، في السنوات الأخيرة، تراجعت حالة المدرسة نتيجة غياب من يتولى إدارتها ويهتم بها.
وهب الله محمد عمر القاسمي ذكاءً حادًا وموهبة كبيرة في التدريس، بالإضافة إلى ملكة في التأليف والخطابة. وكان شغوفًا بالتأليف، ولديه رغبة شديدة في نشر التعليم والمعرفة. وكان ذا مواهب عديدة، فلو أتيحت له بيئة مواتية ودعم مناسب، لبرز اسمه بين كبار علماء الدين الإسلامي، وأصبح من أشهر المؤلفين والخطباء. وإن وظيفته في مدرسة حكومية دينية أجبرته على الاستقرار في منطقة المدرسة المتخلفة، ولم يستطع أن يستغل مواهبه، ويبلغ إلى أهدافه في مجالي التعليم والتأليف. وكان من أهدافه الكبرى إنشاء مطبعة عربية - أردية، لطباعة ونشر كتب علماء السلف النادرة. ورغم جهوده المخلصة وتشجيع الآخرين، لم يوفق في تحقيق هذا الحلم.
وكان محمد عمر القاسمي منذ صغره، شغوفًا بالعلم ومولعًا بقراءة الكتب، بالإضافة إلى اهتمامه بالبحث في القضايا الاجتماعية والدينية. واشتهر بين أقرانه بجرأته في قول الحق، ولم تأخذه في ذلك لومة لائم. وطوال حياته، تجنّب الانتماء إلى أي حركة إسلامية أو حزب سياسي، مفضلًا الحياد وعدم التحيز لأي جهة. وفي المسائل الفقهية والشرعية، كان العلماء والطلاب وعامة الناس يلجأون إليه لطلب الفتوى والاستشارة؛ حيث كان يتلقى يوميًا عشرات الاستفسارات عبر وسائل مختلفة. وبفضل علمه الغزير وشغفه بالمعرفة، كان القاسمي على صلة وطيدة مستدامة بكبار المسؤولين والمشايخ في المؤسسات التعليمية والمعاهد الدينية بمناطق مالدة، ومرشد آباد، وأترا ديناجْفُور، وسيمانتشال، وحظي بمكانة مرموقة واحترام كبير بين الجميع.
ولم يكن الشيخ عالمًا فحسب، بل كان مربيًا صالحًا، عُرف بالتزامه التام بالكتاب والسنة، واهتمامه بتربية أهل بيته تربية دينية خالصة. وقام بتعليم جميع أولاده وأحفاده العلوم الإسلامية، إلى جانب العلوم العصرية، وكان شديد الغيرة على الدين، لم يتهاون قط في تطبيق تعاليمه والالتزام بها.
وكان للقاسمي دور كبير في التصدي للعديد من العادات والتقاليد السيئة المنتشرة في المجتمع، حيث عمل بإخلاص على إصلاحها والقضاء عليها، ورغم ما واجهه من معارضة شديدة في البداية، فإن جهوده أثمرت مع مرور الوقت، وبدأت آثارها تظهر جليًا على المجتمع. وكان القاسمي نموذجًا للعالم العامل الذي يجمع بين العلم النافع والالتزام الشرعي وخدمة الناس وإصلاح المجتمع.
مؤلفاته
ألف القاسمي كتبا وكتيبات عديدة باللغتين العربية والأردوية، ومنها: بهاء العلوم مذكرة سلم العلوم، وتنقيح المفهوم مذكرة مسلم الثبوت، ومصباح الهداية مذكرة هداية، ومصباح الأنوار مذكرة نور الأنوار، وبلاغت قاسمي مذكرة مختصر المعاني، ودليل الأشياء ترجمة دروس الأشياء، وتحفۂ قاسمي شرح التهذيب، وتحفة العرب شرح باكورة الأدب، وإنشاء قاسمي، وقواعد قاسمي: لطلاب الصفوف الابتدائية، وکلید قاسمی، ولغة قاسمي فرهنگ پهلي فارسي، وعقیقہ کے احکام ومسائل (في جزأين) (أحكام ومسائل العقيقة)، واسلامی معلومات کا ذخیرہ (موسوعة المعلومات الإسلامية)، وقربانی کے احکام ومسائل (أحكام ومسائل الأضحية)، وتحفة الواعظين برائے مقررین (هدية الواعظين للخطباء)، ودلائل قرآنی برائے علماء ربانی (الأدلة القرآنية للعلماء الربانيين)، ومسجد میں سترہ کی ضرورت (ضرورة السترة في المسجد)، وتحفة الدعاء (هدية الدعاء)، وعلاج قاسمی، وختم بخاری (ختم البخاري)، وحج وعمرہ کے احکام ومسائل (أحكام ومسائل الحج والعمرة)، وسات حصے میں قربانی (الأضحية عن سبعة)، ومقالات قاسمي (مقالات عربية غير مطبوعة)، والقنبلة الأوقع لتكسير المدفع.
زواجه وأولاده
تزوّج القاسمي من السيدة "باد نور" في سن مبكرة، ورزق منها بأحد عشر ولدًا، وثمانية منهم لا يزالون على قيد الحياة. وجميع أولاده، (أربعة أبناء وأربع بنات) باستثناء بنته الكبرى، تلقوا تعليمهم في المدارس الإسلامية وتخرجوا فيها. وتخرج مولانا عبد الرحمن من دار العلوم الرحيمية كتلاماري، ومولانا عبد الرحيم الندوي والفيضي من دار العلوم لندوة العلماء ومدرسة فيض عام، ومولانا محمد يوسف المدني ومولانا نسيم اختر المدني من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. وأما بناته الثلاث؛ سلمى خاتون الزهراوي، ونسيمة خاتون الزهراوي، ونعيمة خاتون الزهراوي فقد تخرجن في كلية فاطمة الزهراء في مئو بولاية أوترا براديش.
اقرأ أيضًا: محميات الطيور في دلهي – أفضل الوجهات لعشاق الطبيعة
وفي السنوات الأخيرة من حياته، ابتُلي الشيخ بعدة أمراض، ممّا جعله يقلل من مخالطة الناس، وكانت آلامه الجسدية تشتد كثيرًا في هذه الفترة، لكنه لم يتخلَّ يومًا عن صبره ورضاه بقضاء الله. وفي الأيام الأخيرة من حياته، بلغت معاناته ذروتها، ومع ذلك لم تصدر منه كلمة شكوى، بل كان دائم الذكر والتهليل. وانتقل في 6 يونيو 2024م إلى جوار ربه، تاركًا وراءه زوجته الوفية الصالحة وأولاده العلماء، وإرثًا علميًا مهمًا.
ونجح محمد عمر القاسمي خلال حياته في تحقيق ثلاثة إنجازات بارزة: توفير التعليم لجميع أولاده وأحفاده وحفيداته وتربيتهم تربية صالحة؛ ونشر الآداب العربية بكل الإخلاص تدريسًا وكتابة وخطابة؛ وتعميم الدعوة الإسلامية الخالصة بين الناس. فرحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته.
(*حصل الكاتب على المعلومات عن حياة محمد عمر القاسمي وأعماله من أحد حفدته مولانا عبيد الله المدني).
أشفاق أحمد هو أستاذ بمركز الدراسات العربية والإفريقية، جامعة جواهر لال نهرو، نيو دلهي