"غالب" أعظم شعراء الهند في حُلَّةٍ عربيَّةٍ

20-02-2025  آخر تحديث   | 20-02-2025 نشر في   |  آواز دي وايس      بواسطة | مجيب الرحمن 
"غالب" أعظم شعراء الهند في حُلَّةٍ عربيَّةٍ

 

مجيب الرحمن

حضوري حفلَ تدشين كتاب "غالب: أعظم شعراء الهند – أول دراسة بالعربية عن حياته وشعره"، في 14 فبراير 2025م، في عمارة ابن خلدون بالجامعة الملية الإسلامية بنيودلهي، بتنظيم القسم العربي بالجامعة، كان من المناسبات التي جاءت محملة بالفرح والسعادة، وبعثت في نفسي شعورًا غامرًا بالفخر والاعتزاز. ولقد وجدت نفسي جزءًا من جلسة علمية تناولت شعر أحد أعظم شعراء الهند، أسد الله خان غالب، باللغة العربية.

قرأتُ لكم كتابًا

غير أنّ وصف الكتاب بأنه أول دراسة منشورة عن غالب بالعربية أثار في نفسي مشاعر الحزن والأسف. كيف يُعقل أن يمضي مئتا عام وغالب لا يزال متربعًا على عرش الشعر الهندي، دون أن يحظى بدراسة وافية باللغة العربية، رغم وجود عشرات بل ومئات المؤلفات حول الروابط السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها بين الهند والعالم العربي وكون الهند وجزءٍ كبيرٍ من العالم العربي شريكين استراتيجيين مهمين في الوقت الحالي؟ بحثت في الشبكة العنكبوتية عن الشاعر، فلم أجد إلا مقالات ودراسات متناثرة تناولت جوانب من شعره وفنه، في حين حظي شعره باهتمام بالغ في اللغة الإنجليزية وغيرها من اللغات العالمية.

لهذا، لا بد أن يُسجَّل هذا الكتاب، الذي صدر بقلم الكاتب الكبير الدكتور ظفر الإسلام خان عن دار فاروس – نيو دلهي في 140 صفحة من القطع الصغير، في تاريخ الأدب العربي، بوصفه أول دراسة تتناول هذا الشاعر الهندي الفذّ، الذي "ملأ الدنيا وشغل الناس"، كما قال ابن رشيق عن المتنبي. والحق يُقال، إن غالب هو "مالئ الدنيا وشاغل الناس" في الهند وباكستان، في كل زمان وفي كل مكان وُجد فيه الناطقون بالأردية، أكثر مما كان المتنبي في العالم العربي! ويعدّه شاعر الشرق محمد إقبال ندًا وصنوًا للشاعر الألماني غوته، كما ذكر المؤلف في المقدمة والغلاف الخلفي للكتاب.

ولن أتطرّق إلى أسباب الإهمال الذي تعرّض له غالب في العالم العربي نظرًا لضيق مساحة المقال، وغالب هو الشاعر الذي رفع أحد شارحيه عبد الرحمن بجْنوري ديوانَه إلى منزلة الكتاب المقدس حينما قال "يوجد في الهند كتابان إلهاميّان- أحدهما "فيدا المقدس، والآخر "ديوان غالب"، ولذلك، أبدأ بتقديم تعريف بالكتاب. وبحسب المؤلف، فإن هذه الدراسة تمثل جهوده في التعريف بشعر غالب أثناء دراسته في جامعة الأزهر بالقاهرة بين عامي 1969م و1970م، حيث نشر مقالتين في مجلة "المجلة"، التي كان يرأس تحريرها الأديب الكبير يحيى حقي. وقد لاقت هاتان المقالتان استحسان يحيى حقي وأثارتا إعجابه بشعر غالب وفكره. وبعد مرور نحو 55 عامًا، قرّر المؤلف إعادة ترتيب تلك المقالات، وإضافة بعض التعديلات إليها، ثم جمعها في كتابٍ ونشرها.

وذكر المؤلف في مقدمة الكتاب أن شعر غالب الأردي -الذي خلّد اسمه- يحتوي على 1159 بيت شعر، وهو أقل عددًا بالنسبة لديوان أي شاعر هندي آخر، ونُشر لهذا الديوان ما لا يقلُّ عن مائتَي طبعة، منها خمسة ولا يزال حيا، وتُرجم إلى عدة لغات، وللديوان ما لا يقل عن 15 شرحا بالأردية.

وذكر المؤلف أيضًا في مقدمة الكتاب سببَ نيل شعر غالب هذه الأهمية الكبيرة وهو "أن غالب يعيش على أرض الواقع... شعره مرآة صادقة للحياة الصعبة التي عاناها من إخفاقٍ في كل مكانٍ، وفشلٍ في كل حقلٍ، وكان لسقوط المغول أكبرَ أثرٍ على شعره في آخر حياته. إنّه يشُكُّ في كل أمرٍ، يشكو من كل شيءٍ، يتريّث قبل أيّ حكمٍ، ويرفض القيم والنظريات التي كانت مسلَّمةً بها في عصره، وقد قال: "مذهبي التوحيد، ومسلكي هدم التقاليد"! عنده الألم، عنده اليأس، ولكنه يشعر دائمًا بالأمل وهو يتطلع إلى المستقبل المثالي، إلا أنه لا يعرف كيف سيكون ذلك المستقبل: في هذه الدنيا، أو في عالم آخر؟ وهذه الصفة في شعره تميزه عن الشعراء الذين يتغنون للتشاؤم وحده، أو للأمل وحده".

ويحتوي الكتاب على ثلاثة فصول، ما عدا مقدمة وترجمة لقصيدة إقبال عن غالب بعنوان "أي غالب". الفصل الأول يتكون من مباحث عدة منها: حياة غالب، شخصية غالب، عصره، ومؤلفاته، ويتناول الفصل الثاني مبحثين: هما "شعر غالب" و"مراحل شعر غالب"، ففي الأول يذكر المؤلف أن أغلب قصائد غالب من النوع الذي يسمى في اللغة الأردية بـ"الغزل"، وليس المراد بالغزل معناه اللغوي المحدود أو المعنى المقصود في الشعر العربي، فقصيدة الغزل الأردية هي مجموعة أبيات غير مرتبط بعضها بالبعض الآخر إلا في الوزن الشعري والقافية والرديف، ويجب في قصيدة الغزل أن يعبّر كل بيت عن تجربة أو فكرة كاملة، الأمر الذي يوجب على الشاعر اللجوء إلى الرمز والإيماء الخفي، لعدم تمكّنه من إبراز معنى فكرة بتفاصيلها في بيت واحد. فغالب هو الشاعر الذي استطاع الخروج من مضيق الغزل وقدَّم للعالم أعمالا تفوق في روعتها أعمالَ أيِّ أديبٍ آخرَ بسبب عبقريته الفذة وشبكة خياله الواسعة، وفي المبحث الثاني من هذا الفصل ذكر المؤلف أبرز المراحل التي مرّ بها شعره من خلال تجارب الشاعر في الحياة، وبحسب المؤلف فإن قصائد غالب تتسم بأربع أو خمس مراحل، المرحلتان الأولى والثانية منهما تمتازان بتعقيد شديد وإبهام ورمزية بالغة، وكلما تقدَّمت به السن أضحى شعره أرقّ وأصفى وأحلى تعبيرًا، وسنجد أنَ أبيات المرحلة الأخيرة أكثرها تأثيرًا على القلب والوجدان، وهذه المرحلة الأخيرة، كما بيّن المؤلف، هي حصيلة الشيخوخة، وتمتاز بالبساطة المتناهية والوضوح الشديد والحزن العميق، ومردّ ذلك إلى تجارب آخر العمر، والآلام التي ألمَّت به بعد انهيار دولة المغول، واضطهاد الإنجليز.

وأما الفصل الثالث والأخير فتناول فيه المؤلف مميزات شعر غالب تحت عدة مباحث، وأورد تحت كل مبحثٍ ترجمةَ بعض أشهر أبياته التي سارت بين الناس كالمثل والتي يستشهدون بها في المناسبات الخاصة والعامة. والميزة الأولى لشعر غالب بحسب المؤلف هي الأسلوب المتميّز، كما نتبيّن ذلك من أبياته الكثيرة، مثلاً في البيت "كل عمل في الكون صعبٌ تحقيقه... حتى ابن آدم لا يتيسَّر له أن يكون إنسانًا"، أو كما قال الشاعر: "إلهي، لا تنسَ شوقي للمزيد من الذنوب: إن كنتَ تحاسبني على الذنوب التي أتيتُها"، و"أنا راكبٌ حصانَ العمر المنطلق - لا اللجام في يدي، ولا الرجلان في الركاب"، و"النوم له، والُّلب له، والليل له: من انسدلت على كتفيه ضفائرك".

والميزة الثانية لشعر غالب التي تجعل منه شاعرًا إنسانيًا من الدرجة الأولى، هي الألم والحزن، ويقول المؤلف في هذا "الألم والحزن من أهم العناصر التي تحرّك غالب للشعر، وهو يقول عن هذا العنصر في شعره: "ذهب القلب فذهب رونق الحياة- ذهب الحزن فذهب كل شيء"، "للموت يومٌ محددٌ- لِمَ لا أنام طول الليالي" وسجن الحياة وأغلال الألم حقيقة واحدة- فكيف تنجو من الألم قبل الممات؟"، "كانت شرايين الحجر ستدمى ولا تتوقف- لو كان حزني شعلة من نار"، "بقي الحزن حتى نَفَسي الأخيرة- وقد حزنت على الحرمان من النفس"، ومن أبياته في الحزن التي نالت شهرة واسعة وأنشدها المغنون، مثل مغني الغزل الشهير جاغجيت سينغ: "هذا هو قلبي وليس بحجارة-وسأظل أبكى ألف مرة! فلستُ في حاجة لإبكائي- فآلامي تكفيني للبكاء دهورًا".

وأما الميزة الثالثة لشعر غالب عند المؤلف فهي التعقيد الشديد، والتي اتّسم به شعره في مقتبل عمره، والتعقيد هنا لفظي ومعنوي معًا. والميزة الرابعة هي البساطة والجرأة، وقد أورد المؤلف في هذا المبحث ترجمة أبيات عديدة، منها: "لا سلطانَ لأحدٍ على العشق، إنه النار يا غالب، لا تشتعل بالأمل ولا تنطفئ بالرجاء"، "إنني سجين الأماني- التي تكفي الواحدة منها ثمنًا للحياة". "ما خطب شرابك الطهور، أيها الواعظ؟- لا تشربه أنت، ولا تسقيه أحدًا آخر"!

وأورد المؤلف تحت الميزة الخامسة "الرمزية" أيضًا ترجمة أبيات شعرية نالت قبولاً جماهيريا واسعًا عند الخاصة والعامة، فغالب لجأ كثيرًا إلى استخدام الرموز والكنايات للتعبير عن أفكاره، دون المجاهرة بها مباشرة، وهو يرى أنّ البيان لا بد له من الرمز "مشاهدة الحق لا يمكن التعبير عنها، دون الحديث عن الكأس والخمر، وفي كلام الحب والدلال، لا بد من الشتيمة والتلويح بالخنجر"، "لا تأخذني إلى الحديقة، وإلا- ستنفجر كل زهرة، باكية". وفي ضمن الميزة السادسة "الإيجاز"، أورد المؤلف أشهر أبياته أيضًا ومنها مثلا: "كل ما عند الحبيب يكفي لقتلي- عبارتُه، إشارتُه، دلالُه"، "كم من صورة جميلة توارت خلف التراب- وبعضُها وليس كلها، لقد ظهر في شكل الورود والزهور".

كما امتاز غالب بحس المزاح والهجاء الظريف والطعن الخفيف، وله فيه أبيات سائرة أورد المؤلف جزءًا منها مثلا: "لبستُ اليوم لباس الفقراء- لأشاهد ألعاب من زعموا أنهم كرماء"، "أكتب رسالة جديدة قبل مجيء القاصد- فأنا أعرف ردّك على الرسالة السابقة"، "ماذا سأفعل بالجنة التي توجد بها حور عينها منذ آلاف السنين". وفي ضمن الميزة الثامنة أي "تصوير الواقع-كأنّه واقعُ قلبِك"، والتي من خصائص شعر غالب المهمّة بحسب المؤلف، فشعر غالب من النوع الذي يُشعر القارئ بأنه يرى بعينَيه أو كأنّه قد مَرّ بإحساس مماثل أو حادثٍ في حياته الشخصية، وهذه الميزة لا تتوفّر إلا للقليلين من الشعراء المقتدرين.

وقد أورد المؤلف ترجمة عدد لا بأس به من أشهر أبيات غالب التي سارت بين النّاس مجرى المثل، منها مثلا: "من الظلم أن أشكوك حرمان قدري- لعل القدر هو المسؤول عن عذابي"، و مثلًا "يذهب الحزن بمصادقة الحزن- أصبت بكل بلية حتى هانت عليّ البلايا"، وهذا البيت الأخير يذكرنا بشعر المتبني الشهير "من يهن يسهل الهوان عليه -ما لجرح بميت إيلام".

اقرأ أيضًا: البيان المشترك بين الهند وقطر بمناسبة زيارة الدولة لأمير قطر إلى الهند في الفترة 17-18 فبراير 2025م

وختامًا، آمل أن تفتح هذه الدراسة المهمة بابًا جديدًا لترجمة أشعار غالب وشرح معانيها باللغة العربية مع الأخذ بالاعتبار أن ترجمة شعر غالب ونقل تصوراته وأفكاره بنجاحٍ كاملٍ ليس أمرًا هيِّنًا، لأنّ غالب ليس شاعر أيديولوجيّة أو فكر معيّن  مثل شاعر الشرق محمّد إقبال، وإنّما هو شاعر الحياة العامة بخصوصياتها اللغوية والثقافية العميقة التي إذا تحلّى بها الشاعر كاملاً تصبح عملية ترجمة شعره إلى لغة أخرى عملية عويصة، "لن يكون بوسع اللغة المستقبِلة التقاط حركة الأخيلة التي تتحرك في النص الشعري وتفيض بِها الصورة، فضلًا عن عدم إحاطتها بالخلفيات الانفعالية والثقافية، أو الموقف الفني والقيمي الذي يصدر عنه النص"، ولهذا السبب وحده رأى جاحظ استحالةَ ترجمةِ الشِّعر، واعترف به المؤلِّف ظفر الإسلام خان في الكتاب قائلًا: "إن الشعر يفقد الكثير من روعته ومعانيه بعد الترجمة، خصوصا إذا كان أمر الترجمة يتعلق بشعر أصعب الشعراء الهنود أسلوبًا إلى أكثر لغات الأرض –العربية- كمالا ودقة".

أ. د. مجيب الرحمن هو رئيس مركز الدراسات العربية والإفريقية بجامعة جواهر لال نهرو، نيودلهي