مجيب الرحمن
مدينة بوفال عاصمة ولاية مادهيا براديش، وتعني "مدينة البحيرات"، هي كنز من السحر والجمال الثقافي والتاريخي، ولوحة فنية رائعة بألوانها وعناصرها الجذابة. مدينة بوفال تخلد تاريخًا عظيمًا بجمال تصاميم مبانيها وآثارها، ومعابدها، ومساجدها، وكهوفها، وبحيراتها، كأن التاريخ منقوش في كل ركن من أركانها، همسات الأمس تدغدغ تجاعيد جدرانها في خضم تراكم تاريخي لحضارات عديدة. وعندما تطأ قدماك أرضها، سينساب شعور عجيب في جسدك يوحيك بأن عبق التاريخ يعانق جمال الحياة الحديثة، حاملةً الشهادة الحية لتنوع الفنون وثراء الثقافات الهندية. جغرافيًا، تقع ولاية مادهيا براديش ومدينة بوفال في وسط الهند دالّةً على أنها تشكل "قلب" الهند، وفعلا تحمل بوفال في طياتها ذلك الثراء الحضاري والثقافي المدهش الذي اشتهرت الهند لأجلها في العالم كله. سيسعى هذا الكاتب إلى استكشاف ولاية مادهيا براديش في حلقات عديدة من النواحي التاريخية والثقافية والحضارية والعمرانية ابتداءً من مدينة بوفال. وتستحق ولاية مادهيا براديش، فعلا، هذه الجولة الاستطلاعية لنكتشف من خلالها ما تحمله الولاية من كنوز حضارية استثنائية.
إنّ أول ما يشدك إليه بقوة في مدينة بوفال هو المعلم التاريخي الشهير "ستوبا سانشي" الذي يعد رمزًا فنيًّا عظيمًا للإمبراطور أشوك (268 ق.م.- 232 ق.م.) وشاهدًا على مجد حكمه، فيما يعد واحدًا من أشهر المعالم الأثرية في الهند؛ وتمثل رمزًا بارزًا للتراث البوذي في الهند، وتعد من أقدم الستوبات الحجرية في العالم، أنشأها الإمبراطور أشوك لتعزيز البوذية، وهي مدرجة على قائمة التراث العالمي لليونسكو. وتتميز "ستوبا سانشي" بأهميتها الدينية في البوذية لاحتوائها على بقايا مقدسة لبوذا أو رموز دينية تمثل تعاليمه، ومن الناحية التاريخية، تسلط الضوء على دور الإمبراطور أشوكا في نشر البوذية، وأما من الناحية الثقافية والفنية فتزين البوابات الأربع المزخرفة بنقوش رائعة تصور حياة بوذا وقصص الجاتاكا، فيما تمثل النقوش أسلوبًا فنيًا يعكس التقاليد الهندية في فترة ما قبل الميلاد، وتحمل "ستوبا سانشي" أهمية سياحية كبرى حيث تجذب آلاف السياح سنويا مُسهمةً بذلك في الترويج للثقافة الهندية، وبالتالي تعد "ستوبا" شهادة حية على الإبداع البشري والتسامح الديني والتاريخ المشترك للبشرية.
ومن الأثر البوذي التاريخي ننتتقل إلى أثر إسلامي تاريخي ألا هو مسجد "تاج المساجد" الذي يعد بحق "تاجًا" للمساجد في الهند، بكونه أعظم مسجد في آسيا، ويتميز بجماله المعماري وضخامة حجمه، وعراقة تاريخه، ويُعد رمزًا بارزًا للتراث الإسلامي في الهند؛ ومع جمعه بين العراقة والجمال يفرض نفسه بهدوء من خلال قبابه الشامخة وأقواسه المزخرفة.
وبُني هذا المسجد بأمر السلطانة بيجوم في القرن التاسع عشر، إحدى الحاكمات البارزات في ولاية بوفال، ويعبر عن دور المرأة المسلمة في الحكم وتعزيز الفن الإسلامي وخدمة المجتمع. لن تكتمل زيارة المرء لبوفال دون زيارة هذا الأثر التاريخي الجميل.
وننتقل بعده إلى "شاه جهان محل"، رمز الفخامة الملكية حيث يقف القصر شاهدًا على العظمة الملكية والفن المعماري الراقي. وبُني هذا القصر ليكون مقرًا لإقامة ملوك بوفال، ويمثل مزيجًا رائعًا بين الطرازين الإسلامي والهندي. ويتميز القصر بزخارفه الدقيقة وتصميمه الهندسي الفريد، مما يجعله مصدر إلهام للمهندسين المعماريين والفنانين. وعند التجول في أروقته، تشعر بأنك جزء من حكاية ملوكية تنبض بالحياة.
ومن الأثر البوذي والإسلامي، نعرّج على كهوف بهيمبِتكا، التي هي الأخرى تمثل رمزا استثنائيا للتلاقي بين الفن والتاريخ. وتحتوي هذه الكهوف على رسومات بدائية نقشتها يد الإنسان الأول على جدرانها. وتعود هذه الرسومات إلى عصور موغلة في القدم، حيث تصور حياة الإنسان البدائي وتفاعله مع الطبيعة. وعندما يتأمل المرء هذه الرسوم، يشعر وكأنه يعيش لحظة اكتشاف الإنسان للعالم من حوله، حيث تظهر مشاهد الصيد والحياة اليومية بأدق تفاصيلها. وإن هذا الموقع، المدرج أيضًا ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو، يُعد حلقة مهمة في تطور تاريخ البشرية، فيما يمثل موروثًا ثقافيًا فريدًا يوثق تطور الإنسان عبر العصور.
وأما بحيرة بوفال، وما أدراك ما بحيرة بوفال، إنها ليست مجرد مسطح مائي، بل هي روح المدينة وقلبها النابض، أنشأها الملك "بهوجا" (1005م-1055م) الذي كان يطمح إلى إنشاء ملاذ طبيعي يعكس جمال وهدوء المدينة. وتقدم البحيرة مناظر شهيرة حولها، والتي تجذب السياح إلى التقاط الصور التذكارية، أو المشي على ضفافها أو ركوب القوارب عليها وسط أجواء شاعرية. ومن دون شك، تعتبر بحيرة بوفال وجهة شعبية وعلامة بارزة لمدينة بوفال الجميلة.
هذا ويقع بالقرب من بوفال عدد من المعالم السياحية المهمة الأخرى مثل حصن فتح غره، ومعبد لاكشمينارايان، وبهارات بهاوان، وهو مركز فني متعدد الأغراض، ومتحف الإنسان، وهو معرض مفتوح في الهواء الطلق لنسخ طبق الأصل من مساكن القبائل الهندية المختلفة، ومنتزه فان فيهار الوطني، وهو حديقة حيوان.
فإن مدينة بوفال ليست عبارة عن مجرد حاضنة لمواقع أثرية شهيرة، وإنما هي موطن حكايات حية تتجدد مع العصور؛ معبرة عن مفهوم التراث للأجيال الناشئة وداعيةً الإنسان لاستكشافها والتحاور معها نحو اكتشاف ذاتي، وإنها ليست "وجهة سياحية" فقط، بل إنها رمز للهوية الثقافية العريقة للهند، حيث يلتقي الماضي بالحاضر لتشكيل لوحة فنية متكاملة.
اقرأ أيضًا: حديقة كازيرانغا الوطنية–أحد مواقع التراث العالمي في الهند
ولدى زيارتك إلى بوفال، إنك تعيش تجربة تأخذك إلى عمق الحضارة الإنسانية، وتمنحك شعور الدهشة أمام عظمة الطبيعة وإبداع الإنسان. إنها مدينة تستحق أن تكون وجهة لكل من يبحث عن الجمال والتاريخ والثقافة.