مجيب الرحمن
لقد شهدت العلاقات بين الهند والعالم العربي ولا سيما منطقة الخليج العربي في عام 2024م، ازدهارًا كبيرًا عكس الأهمية الاستراتيجية المتزايدة للتعاون الثنائي في المجالات السياسية والاقتصادية. وفي ظل التحولات الكبيرة التي تشهدها الديناميكيات الإقليمية والعالمية، سعى الجانبان إلى توطيد علاقاتهما التاريخية وترسيخ شراكات استراتيجية في قضايا ذات اهتمام مشترك، مثل زيادة حجم التبادل التجاري، وزيادة الاستثمارات المتبادلة في المجالات الحيوية، وتعزيز الأمن والاستقرار، وتحقيق التنمية المستدامة، والارتقاء بمستوى الازدهار والرفاهية لشعبيهما.
وتجلى ذلك عبر سلسلة من زيارات دبلوماسية رفيعة المستوى، شملت توسيع آفاق التجارة والاستثمار وتعميق التعاون في مجالات الطاقة والأمن. ومن أبرزها الزيارات التاريخية لفخامة الرئيسة دروبادي مورمو إلى عدد من الدول العربية منها الجزائر وموريتانيا، والتي عكست التزام الهند بتعزيز علاقاتها مع العالم العربي عبر مختلف المناطق. وخلال هذه الجولات، شدّدت الرئيسة مورمو على أهمية بناء شراكات تقوم على الثقة المتبادلة والقيم والطموحات المشتركة، مع تركيزها على تعزيز التجارة الثنائية، وتشجيع التبادل الثقافي، وتوطيد الحوار السياسي. كما ركّزت محادثاتها على قضايا أساسية مثل التعليم والرعاية الصحية وتطوير البنية التحتية، مما أظهر دور الهند كمساهم رئيس في دعم التنمية الإقليمية.
ومن جهة أخرى، واصل رئيس الوزراء ناريندرا مودي مهمة تعميق التواصل مع دول العالم العربي خلال زيارات استراتيجية إلى دول الخليج، بما فيها الإمارات العربية المتحدة ودولة قطر وسلطنة عمان وأخيرًا دولة الكويت (21-22 ديسمبر 2024م). وقد قامت هذه الزيارات بدور محوري في تعزيز التعاون الاقتصادي وترسيخ مكانة الهند كشريك موثوق به للعالم العربي. وتركزت أجندة رئيس الوزراء مودي على توسيع الاستثمارات، وتعزيز مشاريع البنية التحتية، واستكشاف مجالات جديدة في الطاقة المتجددة والأمن الغذائي. كما أكّد رئيس الوزراء في لقاءاته على استعداد الهند للتصدي للتحديات العالمية، مثل تغير المناخ، والإرهاب، وعدم الاستقرار الإقليمي، مما يعزّز دورها كحليف موثوق وشريك مسؤول. ويدل حصول رئيس الوزراء مودي على "وسام مبارك الكبير" أعلى جائزة وطنية في الكويت دلالة واضحة على الأهمية الكبيرة التي توليها الكويت لعلاقاتها مع الهند، والتي تطورت إلى شراكة استراتيجية بهذه الزيارة التاريخية لرئيس الوزرا الهندي إلى الكويت.
وقد أسفرت هذه الجهود عن توقيع اتفاقيات مهمة بين الهند وعدد من دول الخليج العربي التي تتعلق بمشاريع مشتركة في مجالات التكنولوجيا، والتخطيط الحضري، والطاقة المتجددة، مما يعكس النهج الإيجابي والبناء للهند في تعزيز شراكات التنمية المستدامة، وتأكيد التزامها بدعم رفاهية المنطقة.
وعلى الصعيد العربي، شهد المشهد الدبلوماسي خطوات متبادلة عزّزت أواصر التعاون، حيث قام عدد من القادة البارزين بزيارات رسمية إلى الهند. شكلت زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان محطة بارزة، إذ أثمرت عن توقيع اتفاقيات استراتيجية شملت قطاعات حيوية مثل الطاقة، والأمن الغذائي، والتكنولوجيا. وقد عكست هذه الاتفاقيات العمق المتزايد في الشراكة الهندية-السعودية وأكّدت الأهمية المتبادلة لهذه العلاقة المتنامية. وبالمثل، جاءت زيارة أمير قطر لتسليط الضوء على تعزيز التعاون في مجالي الغاز الطبيعي والطاقة النظيفة، مما جسّد عمق العلاقات في قطاع الطاقة بين الهند ودول الخليج. ومثَّلت هذه التبادلات رفيعة المستوى التزامًا مشتركًا بتوطيد العلاقات الثنائية ومعالجة القضايا ذات الاهتمام المشترك.
ولقد برز التعاون الأمني كركيزة أساسية للشراكة الهندية العربية، مدفوعًا بالتحديات المشتركة التي تشمل الإرهاب وعدم الاستقرار الإقليمي. وعمل الطرفان بتنسيق وثيق على تعزيز تبادل المعلومات الاستخباراتية، وتعطيل شبكات تمويل الإرهاب، ومكافحة الأيديولوجيات المتطرفة. وقد شاركت الهند بنشاط في المنتديات الأمنية الإقليمية، ما يعكس دورها المتنامي كطرف معني بتحقيق الأمن والسلام في الشرق الأوسط. كما تم توقيع اتفاقيات مهمة لتبادل المعلومات الأمنية، مع التركيز على مكافحة الإرهاب والتطرف العنيف. وعزّزت هذه الجهود مكانة الهند كشريك موثوق به في ضمان الأمن الإقليمي وسلّطت الضوء على نهجها الاستباقي في تعزيز السلم والاستقرار على الصعيد العالمي.
وظل دعم الهند الثابت للقضية الفلسطينية محورًا رئيسًا في سياستها تجاه العالم العربي، حيث أكدت مرارًا التزامها بمبدأ حل الدولتين كسبيل لتحقيق السلام العادل والدائم في الشرق الأوسط. وخلال زياراته إلى العواصم العربية، شدّد وزير الشؤون الخارجية الدكتور إس. جايشانكار على تضامن الهند الراسخ مع الشعب الفلسطيني ودعمها للمبادرات الدولية الهادفة إلى حل القضية من خلال الحوار والمفاوضات. وهذا الموقف المبدئي لم يعزّز فقط علاقات الهند التاريخية مع العالم العربي، بل سلّط الضوء أيضًا على التزامها بقيم العدالة والسلام في إطار الدبلوماسية الدولية.
ولقد وصل التعاون الاقتصادي بين الهند والعالم العربي في عام 2024م إلى آفاق جديدة، حيث تجاوزت التجارة الثنائية مع دول مجلس التعاون الخليجي وحدها 200 مليار دولار، مما يعكس عمق ومتانة العلاقات التجارية بين الجانبين. وبرزت الهند كشريك تجاري رئيس لدول مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، إذ تضمنت الصادرات الهندية إلى العالم العربي منتجات متنوعة مثل الأدوية، والسلع الزراعية كالأرز والقمح، والآلات الصناعية. وفي المقابل، شكلت واردات الهند بشكل أساسي النفط الخام، والغاز الطبيعي، والمعادن. وأسهمت اتفاقيات التجارة الموسعة في تنويع قائمة السلع والخدمات المتبادلة، مما عزّز التكامل الاقتصادي وساهم في نمو اقتصادي مشترك.
كما شهدت تدفقات الاستثمار بين الهند والعالم العربي مستويات قياسية جديدة، حيث ركّزت الاستثمارات العربية في الهند، ولا سيما من الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، على تطوير البنية التحتية، والطاقة المتجددة، والتكنولوجيا الرقمية. ومن أبرز المشاريع المشتركة مشاركة الإمارات العربية المتحدة في تطوير المدن الذكية، واستثمارات المملكة العربية السعودية في مشاريع الطاقة الشمسية في ولاية راجستهان.
ومن جهة أخرى، قامت الشركات الهندية بضخ استثمارات كبيرة في مشاريع البنية التحتية الخليجية، مع التركيز على إنشاء الطرق السريعة، وتطوير الموانئ، ودعم قطاع التكنولوجيا المالية المزدهر. ويعكس هذا التدفق الاستثماري ثنائي الاتجاه الفوائد المتبادلة التي يجنيها الجانبان من التعاون الاقتصادي، كما يبرز الإمكانات الهائلة لتعزيز النمو المستدام في المستقبل.
وظل التعاون في مجال الطاقة ركيزة أساسية للعلاقات الهندية العربية، حيث أدّى دورًا محوريًا في تعزيز الشراكة بين الجانبين. وأكّدت الاتفاقيات طويلة الأجل مع المملكة العربية السعودية والعراق إمدادات مستقرة من النفط والغاز الطبيعي، ما يعكس الأولوية التي توليها الهند لأمنها في مجال الطاقة. وفي المقابل، ساهمت دول الخليج بفاعلية في دعم طموحات الهند في مجال الطاقة المتجددة، إذ أسفرت المشاريع المشتركة في الطاقة الشمسية وطاقة الرياح عن خطوات ملموسة نحو الانتقال إلى مصادر طاقة نظيفة ومستدامة. وقد جسّدت هذه الشراكات تكاملاً استراتيجيًا بين احتياجات الهند المتزايدة من الطاقة والخبرات والموارد التي يتمتع بها العالم العربي.
وكان من أبرز إنجازات عام 2024م الإعلان عن الممر الاقتصادي الهندي العربي، وهي مبادرة طموحة تهدف إلى تعزيز الربط بين الهند ودول الخليج من خلال شبكة متكاملة من الموانئ والطرق البحرية. وقد تم الكشف عن هذا المشروع خلال قمة مجموعة العشرين التي عُقدت في نيودلهي في سبتمبر 2023م، بمشاركة دولية واسعة شملت السعودية، والهند، والإمارات، وبلدانًا أوروبية وأمريكية. ويهدف المشروع إلى تطوير شبكة النقل عبر السكك الحديدية والكابلات الكهربائية، مع تقديم فوائد اقتصادية كبيرة على المستويين الإقليمي والدولي، من أبرزها تقليل التكاليف وزيادة سرعة شحن البضائع. ومع ذلك، فإن تحقيق هذه الأهداف يتطلب التغلب على تحديات سياسية وجيوستراتيجية تواجه المشروع.
كما حظي التعاون بين الجانبين في مجال التكنولوجيا الزراعية بأهمية خاصة، إذ تركزت الجهود المشتركة مع الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية على مواجهة تحديات الأمن الغذائي وتغير المناخ. وتضمنت هذه الجهود تطوير تقنيات الزراعة الذكية لتحسين الإنتاجية الزراعية وضمان الاستدامة طويلة الأجل، مما يعكس التزامًا مشتركًا بالتنمية المستدامة.
اقرأ أيضًا: العلاقات بين الهند وقطر منذ عام 2014: مزيج من السياسة والثقافة والاقتصاد – الحاضر والمستقبل
وفي الختام، شكّل عام 2024 محطة بارزة في العلاقات الهندية-العربية، حيث شهدت الشراكة بين الجانبين تقدمًا ملحوظًا في المجالات السياسية والاقتصادية. وأكدت الزيارات رفيعة المستوى التي قام بها القادة الهنود، وعلى رأسهم الرئيسة مورمو ورئيس الوزراء مودي، إلى جانب الزيارات المتبادلة من قبل القادة العرب، على عمق واتساع هذه الشراكة المتنامية. ومن الاتفاقيات الاستراتيجية إلى مبادرات التعاون في الطاقة والأمن والمشاريع المشتركة، كان العام شاهدًا على تعزيز شامل للعلاقات المبنية على الثقة والاحترام المتبادل. ومع استمرار المنطقتين في مواجهة التحديات العالمية، فإن هذه الشراكة مرشحة لمزيد من التطور، لتكون نموذجًا يُحتذى به في التعاون الدولي القائم على المنافع المتبادلة والتطلعات المشتركة.
أ. د. مجيب الرحمن هو رئيس مركز الدراسات العربية والإفريقية بجامعة جواهر لال نهرو، نيودلهي