أشفاق أحمد
بدأ تاريخ اللغة العربية في الهند قرونا قبل ظهور الإسلام بسبب علاقاتها التجارية والثقافية. وظلّت تتوثّق الصلات بين الهنود والعرب منذ ظهور الإسلام في أوائل القرن السابع الميلادي. وبلغت هذه الصلات متعددة الأبعاد إلى ذروتها في عهد الإمبراطورية العباسية (750-1258). وفي العهد الحديث، أسّس الهنود المعاهد التعليمية والمراكز الثقافية بعدد كبير في ربوع الهند، وألّفوا باللغة العربية كتبًا كثيرة ونشروها، كما أصدروا المجلات والجرائد العربية ونشروا فيها الألوف من البحوث والمقالات.
وإنّ سواحل الهند الغربية والجنوبية كانت معروفة عند العرب منذ قديم الزمان. وفي الواقع، أدّى العرب والأوروبيون دورًا قياديًا في بدء العلاقات بين الهند والعالم العربي وتوطيدها. وطفق يزداد التبادل التجاري والثقافي بين الهنود والعرب ويتوثّق من جراء وصول الإسلام إلى شبه القارة الهندية منذ عهد عمر بن الخطاب خليفة للمسلمين في ثلاثينيات القرن السابع الميلادي.
ويشهد التاريخ أن اللغة العربية ظلت لغة دخيلة في الهند على مدى عصورها الإسلامية، ولم تحظ بمكانة اللغة الأم أو اللغة الرسمية في أية منطقة من مناطق الهند، سوى بعض السواحل الغربية حيث حازت، في بعض الأحيان، على منزلة لغة رسمية.
وإن الدافع الديني فهو أهم العوامل لنشر اللغة العربية في هذا البلد شاسع الأطراف. والقرآن الكريم كتاب يقرأه جميع المسلمين، ويتعلمون منه عقائد الإسلام، ورسالة التوحيد، والأخلاق الحسنة، والمثل العليا في الحياة الاجتماعية. وظل القرآن الكريم والحديث النبوي على رأس المنهج التعليمي الإسلامي في الهند عبر العصور.
وأنجبت الهند عددًا لا بأس به من الأدباء والعلماءوالفقهاءوالمحدثينوالمفسرين الذين ذاع صيتهم في جميع الدول الإسلامية بفضل مؤلفاتهم القيمة، وعدّت بعض هذه المؤلفات أمهات الكتب في العلوم الإسلامية والفنون العربية.
المدارس العربية الإسلامية
أسّس السلاطين المسلمون وعلماء الإسلام في الهند ألوفًا من المدارس العربية الإسلامية في العهود القديمة والوسطى والحديثة، والتي ظلت أهم المراكز للغة العربية وآدابها.
وضعفت الإمبراطورية المغولية الإسلامية في الهند (1526-1857) بعد وفاة الإمبراطور أورنك زيب عالمكير في عام 1707 الميلادي؛ فأعلن العديد من الأمراء الهنود استقلالهم من الحكومة المغولية المركزية، وأسسوا دويلاتهم في المناطق المختلفة. واضمحلت الحكومة المركزية، وضعف نفوذها السياسي، ونفدت مواردها البشرية.
ومن جراء هذه الأسباب والأخرى، أخذ الإنجليز يسيطرون على الهند شيئًا فشيئًا منذ القرن الثامن عشر. وقد اكتملت سيطرتهم عليها في منتصف القرن التاسع عشر. وثار الهنود بقيادة الإمبراطور المغولي الأخير بهادر شاه ظفر ضد الإنجليز في عام 1857م، ولكن الثورة فشلت، وبه بدأ ظلم الاستعمار السافر على الهنود، وخاصة استهدف المسلمين؛ لأنهم كانوا أمراء هذا البلد منذ قرون.
وقامت الحكومة الإنجليزية بإجراءات معاندة شديدة ضد المسلمين، بما فيها إحراق بيوتهم، وإضاعة أموالهم، وإراقة دمائهم، وإغلاق مدارسهم ومراكز تعليمهم. وهذه الإجراءات في الواقع هدّدت وجود الإسلام في الهند، وأحاط بالمسلمين الفقر والبؤس والشقاء.
وظهر في هذه الأوضاع السيئة نوعان من القيادة بين المسلمين في القرن التاسع عشر: القيادة الدينية برئاسة علماء ديوبند، وقيادة التعليم العصري برئاسة السير سيد أحمد خان. وإن القيادة الدينية فأصحابها بذلوا جهدًا كبيرًا للحفاظ على التعليم الإسلامي والعربي، ومظاهر الحياة الإسلامية، وتوجيه الدعوة إلى المسلمين للابتعاد عن التعليم الغربي. ولقيادة التعليم العصري أيضًا فضل كبير على المسلمين في شبه القارة الهندية؛ فقد سعت لنشر التعليم الحديث بين المسلمين، ورفع مستوى حياتهم.
دار العلوم بديوبند
قام علماء الدين الإسلامي في القرن التاسع عشر بتأسيس عدد كبير من المدارس العربية الإسلامية وأكبر جميعها دار العلوم بديوبند في عام 1866م. ولم تكن رسالة هذه الدار ومثيلاتها مقتصرة على التعليم والتدريس فحسب، بل أرادت الاحتفاظ بشعائر الإسلام، والدفاع عن القيم الإسلامية، واسترجاع الحكم المغصوب. وأصبحت مدرسة ديوبند الإسلامية زعيمة اتجاه القيادة الدينية، وللمتخرجين فيها تأثير كبير في حياة المسلمين الدينية والعلمية والسياسية في الهند.
وتأثرت معظم المدارس العربية الإسلامية في الهند بمنهج مدرسة ديوبند التعليمي والفكري؛ فراجت فيها مقرراتها الدراسية، وعمت فيها طرق تدريسها، وقبلت أساليب دعوتها الإصلاحية. وللأسف الشديد، بذلت هذه القيادة كل الجهد لمنع جيلهم الناشئ عن التعليم العصري، والعلوم والثقافة الغربية الحديثة. وهذه القيادة مسؤولة إلى حد كبير عن تخلّف المسلمين الهنود في العلوم والتكنولوجيا.
وإنّ منهج التعليم المعروف بـ "الدرس النظامي"، الذي اتخذته دار العلوم بديوبند والمدارس العربية الإسلامية التابعة لها، لم يهتم بتعليم اللغة العربية اهتمامًا كبيرًا. فدار العلوم بديوبند ومثيلاتها ركّزت على تدريس الفقه، والتفسير، والحديث، والفلسفة القديمة، والمنطق، وكتابة الشروح والحواشي باللغة الأردية لحوالي قرن منذ إنشائها. وأخذت هذه الدار تهتم باللغة العربية اهتمامًا منذ ستينيات القرن العشرين. وجعل بعض أساتذتها الآداب العربية جزءًا لازما للمقررات الدراسية. وقد ساهمت هذه الدار مساهمة لا يستهان بها في نشر اللغة العربية في الـ 50 سنة الماضية.
وممّا لا يشك فيه أحد هو أن المدارس العربية الإسلامية هي أهم المراكز للغة العربية في الهند المعاصرة، حيث أنجبت معاهد التعليم الإسلامي عددًا لا بأس به من كبار الكتاب والأدباء والشعراء والخطباء، وهؤلاء الكتاب والأدباء والشعراء خلّفوا وراءهم آثارًا قيمة في مختلف الموضوعات والمجالات، ونالت بعض الكتب العربية للهنود صيتًا ذائعًا في العالم العربي والإسلامي. ورغم النقائص العديدة في مناهج تعليم المدارس الإسلامية وطرق تدريسها ومقرراتها الدراسية، فإنها أدّت دورًا بارزًا في نشر اللغة العربية في الهند، وظلت أهم المراكز لها.
ندوة العلماء
ظهرت مدرسة فكرية ثالثة بدعوة أن العلم وحدة لا ينقسم إلى قديم وحديث، وإن "الحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها فهو أحق بها". ,اهتمت هذه المدرسة اهتمامًا خاصًا بالقرآن الكريم والحديث النبوي مع مراعاة التعليم العصري والتركيز الخاص على اللغة العربية. وتميّزت ندوة العلماء عن غيرها من المدارس الإسلامية بإيلاء اهتمامها الخاص باللغة العربية، واتخاذها الوسطية والاعتدال في الفكر والسلوك، وعملت كرابط بين الفكرة الغربية التي قادتها جامعة علي كراه الإسلامية، وبين الفكرة الإسلامية الديوبندية المحافظة.
وركّز علماء ندوة العلماء على بعث اللغة العربية من زاوية الخمول، مؤكدين على أن اللغة العربية هي لغة حية متدفّقة بالقوة والنشاط، ولغة الشريعة والقانون، ولغة تخدم الإنسان في كل مجالات الحياة. ومن ميزات ندوة العلماء بلكناؤ إدخال الكتب الحديثة في الأدب والنقد، والدين والشريعة في مقرراتها الدراسية. وإنها بذلت جهدًا مستطاعًا في إنقاذ الأدب العربي من الأساليب المعقّدة، والمجموعات المختارة، كما استقدمت أدباء بارعين من أهل العرب لتطوير مستوى اللغة العربية في الهند دراسة وتخاطبا وكتابة.
وتخرج في ندوة العلماء جيل من الطلاب الذين نالوا مكانة مرموقة بين الأدباء العرب بفضل سلامة اللهجة، وجمال التعبير، ورصانة البيان، ونضج الأسلوب، والقدرة التامة على التعبير عمّا يدور في خواطرهم. وقد نجحت إلى حد كبير في إقناع الآخرين في الهند بأهمية الاعتناء باللغة العربية وآدابها، والتركيز الخاص على الكتب الحديثة.
المعاهد الإسلامية الأخرى
لقد اهتمت "مدرسة الإصلاح" و"جامعة الفلاح" في أعظم كراه، و"الجامعة السلفية" في بنارس، و"جامعة ابن تيمية" في تشامباران، و"الجامعة الإسلامية سنابل" بنيودلهي وغيرها من المعاهد الإسلامية والعربية أيضًا، بتعليم اللغة العربية وآدابها. وظهرت مدرسة سنابل كمركز مهمّ للغة العربية في الوقت الحالي. وبفضل ما بذله السلف والخلف من جهود ملموسة، انتشرت اللغة العربية في ربوع الهند، وتحسّن مستواها، وزادت فرص الوظائف لمتعلميها في الهند وخارجها.
تعليم اللغة العربية في الجامعات
يتم تعليم اللغة العربية وآدابها في كثير من الجامعات الهندية منذ أكثر من قرن ونصف قرن. وقد أسهمت هذه الجامعات إسهامًا كبيرًا في نشر الآداب العربية، ورفع مستوى التدريس العربي، وتجديد طرقه، وإدخال المواضيع الجديدة والفنون الحديثة في مقرراتها الدراسية. ومن أهم مساهمات هذه الجامعات إعداد وتقديم بحوث/ أطاريح كثيرة قيمة.
وتدرّس اللغة العربية وآدابها في أكثر من ثلاثين جامعة وأكثر من مئة كلية حكومية في مختلف الولايات الهندية. أدّت -ولا تزال- الجامعات والكليات الهندية دورًا مرموقًا في تنشئة اللغة العربية وتطوير الأدب العربي في الهند.
وأشهر الجامعات الهندية التي يتم فيها تعليم اللغة العربية هي؛ جامعة كولكاتا والجامعة العالية وجامعة غوربنغا وجامعة مرشد آباد وجامعة بُردوان وجامعة فيشوابهارتي بولاية غرب البنغال، وجامعة مَدْرَاسْ بولاية تاميل نادو، وجامعة بومباي بولاية مهاراشترا، وجامعة علي كراه الإسلامية وجامعة لكناؤ وجامعة خواجه معين الدين الجشتي للغات وجامعة إله آباد وجامعة بنارس الهندوسية بولاية أترابراديش، والجامعة العثمانية وجامعة مولانا آزاد الوطنية الأردية بولاية تيلانغانا، وجامعة غواهاتي وجامعة آسام وجامعة قطن بولاية آسام، وجامعة بابا غلام شاه بادشاه وجامعة كشمير بإقليم جامو وكشمير الاتحادي، وجامعة بتنة بولاية بيهار، وجامعة بركة الله بولاية مادهيا براديش، وجامعة كيرالا وجامعة كاليكوت بولاية كيرالا، وجامعة جواهر لال نهرو وجامعة دلهي والجامعة الملية الإسلامية في دلهي وغيرها.
وقامت المدارس العربية الإسلامية والكليات والجامعات الحكومية بدور بارز في نشر اللغة العربية في الهند. ومما تمتاز به المدارس الدينية هو الاهتمام بلغة القرآن والحديث، فاللغة العربية جزء لا يتجزأ لمقرراتها الدراسية. وأما الأقسام العربية في الكليات والجامعات العصرية فتهتم باللغة العربية الحديثة، ويتم تعليمها فيها بهدف الحصول على وظائف مناسبة في مختلف المجالات والقطاعات في الهند وخارجها. ومن مميزاتها أيضًا قيامها بإعداد وتقديم الأطاريح في مختلف الموضوعات الأدبية والفنية والنقدية، ويحصل بها الباحثون والباحثات على درجات الدكتوراه. ومما لا شك فيه أن المعاهد الدينية والعصرية تحافظ معًا على اللغة العربية، وتضمن مستقبلها في الهند.
أشفاق أحمد هو أستاذ بمركز الدراسات العربية والإفريقية، جامعة جواهر لال نهرو، نيو دلهي