السير سيد أحمد خان رائد النهضة التعليمية الحديثة

Story by  آواز دي وايس | Posted by  M Alam | Date 17-10-2024
السير سيد أحمد خان رائد النهضة التعليمية الحديثة
السير سيد أحمد خان رائد النهضة التعليمية الحديثة

 

د. محمود عالم الصديقي

يعتبر السير سيد أحمد خان رائدًا من رواد التعليم العصري والتعليم الإسلامي في الهند. وهو أول مسلم هندي قام بدعوة المسلمين الهنود إلى تزودهم بالعلوم العصرية مع إتقانهم العلوم الشرقية، قائلا كلمته الخالدة التي تستحق أن تكتب بماء الذهب: "القرآن كلام الله والخلق مخلوق الله أو عمل الله، فلا مجال هناك للمناقضة والتعارض بينهما لأن كليهما قد خرجا من مصدر واحد. فبكوننا مسلمين يجب علينا أن ندرس العلوم العقلية بحيث أن تكون ملك يدنا اليسرى، والعلوم الإسلامية تكون ملك يدنا اليمنى والكلمة الطيبة تتوج رأسنا".

ولم يكتف بهذه الكلمة الذهبية بل سلك مسلكا عمليا في ذلك: فبدأ حركة كتابة التاريخ الإسلامي ليزوِّد المسلمين بماضيهم المجيد وينير طرقهم لمسايرة  النهضة العلمية الجديدة، وفسَّر القرآن تفسيرا عقلانيا يلائم بالعلوم العصرية... وظل يواصل الجهد في نشر العلوم العصرية والعلوم الإسلامية حتى نجح في  إقامة دولة علمية في مدينة عليجراه، ومنها انتشرت الأضواء العلمية في جميع أطراف الهند من المدن والقرى. فبضل جهوده التعليمية تأسست جامعة عليجراه الإسلامية التي مهدت الطريق لظهور الجامعة العثمانية بمدينة حيدر آباد والجامعة الملية الإسلامية بدهلي ودار العلوم لندوة العلماء بلكناؤ في حيز الوجود. فهذه المؤسسات التعليمية منذ ذلك الحين حتى الآن قائمة في نشر العلم والمعرفة بين أهاليها. ويرجع إليه فضل تأسيس هذه المؤسسات التعليمية المذكورة. فكانت شخصية السير سيد أحمد خان في القرن التاسع عشر شخصية عظيمة في مجال التعليم والتربية.. فتستحق شخصيته بأن تدرس بقدر من التفصيل.

شخصية السير سيد أحمد خان

هو "سيد أحمد خان"، ولقّبه الإنجليز بـ"Sir"في معنى "السير" باللغة العربية، فاشتهر بـ "السير سيد أحمد خان". ولد عام 1817م في مدينة دلهي. وتثقف ثقافة دينية فنشأ بها نشأة صالحة وتلقى العلوم الإسلامية من علماء عصره على حسب عادة المسلمين الهنود في تلك الأيام. وكان في طليعتهم: الشيخ الشاه محمد إسحاق الذي كان خلفا للشيخ الشاه عبد العزيز بن الشاه ولي الله الدهلوي والشيخ "مملوك على" مؤسس كلية دلهي وغيرهما. والجدير بالذكر أن أسرة السير سيد أحمد خان كانت أسرة أرستقراطية تتمتع بعلاقة حسنة مع الأسرة الحاكمة المغولية. فكان أسلافه في خدمات رسمية في محكمة الإمبراطورية المغولية منذ زمن طويل مما أتاح للسير سيد أحمد خان فرصة لمشاهدة الحكومة وإدراك أسباب نفوذها وأسباب ضعفها مما أثر فيما بعد في تكوين شخصيته. فكان يعرف حق المعرفة أن الحكومة المغولية في حالة احتضار تتنفس أنفاسها الأخيرة، ولم يكن لها نفوذ إلا ظل النفوذ الماضي الباهر. وبالعكس فإن الإنجليز مع العساكر المتدربين يتمتعون بقوة متزايدة. فعزم السير سيد أحمد خان على إبقاء نفسه بعيدًا عن النشاطات الثورية ضد الحكومة البريطانية والخوض في أية معركة مع المعارك ضدها، بل إنه انضم إلى وظيفة الحكومة البريطانية، وبدأ العمل عام 1838م بصفة"سكرتير" وما زال يترقى من منصب إلى منصب حتى تقلد منصب قاضي القضاة.

تأثير الثورة لعام1857م على أحمد خان

الجدير بالذكر أن السير سيد أحمد خان كان متعينا في منصب "النيابة القضائية" في مدينة بجنور في زمن الثورة الهندية لعام1857م. فحاول الثوار قتل المسؤولين الإنجليز الأبرياء. فقام السير سيد أحمد خان بدور محمود في إنقاذهم خلال الثورة. وكما لعب دورا مشكورا في إنقاذ المسلمين بعد الثورة.. فلم ينقذهم حرصا على كسب جائزة رسمية بل أنقذهم إيمانا بهذه الآية الكريمة: "من قتل نفسا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعا". كما هو يقول بنفسه: "خلال أيام الثورة لعام 1857م، الرجال والنساء من الإنجليز قد مروا بمأزق خطير أصابهم فيه الألم والحزن، وبعد الثورة قد وقعت الأمة المسلمة الهندية في أزمات دمرت عددًا كبيرًا من أسر جليلة شريفة. وكلتا الحادثتين هزّتا وجودي هزًا عنيفًا حتى لم أشعر بالألم والحزن على أن سلب الثوارُ ممتلكاتي وانتزعوا بيتي وأضرموه. ولكن تألمت ألمًا شديدًا على حالة خطيرة للأمة المسلمة الهندية. وكذلك تألمت من المشاكل التي خلقها الهنود لأخواننا الإنجليز. وعندما قدم أخي السيد سيكسبيئر إليّ الإقطاعية التي تقدر قيمتها أكثر من مائة ألف روبية هندية عوضا عن ولائي لهم، وهذه الإقطاعية كانت تحت ملكية أسرة مسلمة شهيرة. فقلت لنفسي: من يكون أكبر بؤسا وأشد حزنا مني في هذه الدنيا أن أمتي قد تم تدميرها وأنا أكون إقطاعيا آخذا ممتلكاتها. فرفضت أن أقبلها."

في الحقيقة، قد أثرت الثورة الهندية على حياة السير سيد أحمد خان تأثيرًا عميقًا حتى إنه عزم على الهجرة من الهند إلى مصر غير أن صحوة ضميره وفكره في ترك القوم في هذه الأوضاع المليئة بالخطر منعتاه عن الهجرة. فمنذ ذلك الحين عقد العزم على إنقاذ الأمة المسلمة الهندية من الاعتداءات السياسية الناجمة عن قيامها بدور فعال في الثورة. ثم اتخذ خطوات عملية لتعزيرها من خلال تزويدهم بالتعليم الحديث واتصالهم بالدين الإسلامي الصحيح وروحه، (ألطاف حسين حالي، حيات جاويد، ص:79).

محاولة أحمد خان في إنقاذ الأمة المسلمة من العدوان الإنجليزي

فأول خطوة  اتخذها السير سيد أحمد خان كانت خطوة إنقاذ الأمة المسلمة من العدوان الإنجليزي الذي وقع فيه المسلمون إثر خمود نيران الثورة. فاعتبرهم الإنجليز  ثوارا ومسؤولين عن الثورة الهندية لعام 1857م، فأنزلوا عليهم شر عذاب من القتل والإعدام والنفي المؤبد إلى جزيرة أندومان مما أدى إلى تشتت شملهم  وتفرق كلمتهم وتدمير أسرهم. فلما رأى السير سيد أحمد خان بعد الثورة مصير أبناء قومه في جميع البلاد وما آل إليه أمرهم من التشتت وتفرق الكلمة، شمر عن ساق الجد وقام بالدفع عن الاتهامات التي نسبوها إلى قومه وشعبه. فألف كتابه الشهير "أسباب الثورة الهندية" باللغة الأردية وحاول فيه كشف القناع عن علل الثورة الهندية الحقيقية والتبرئة من كثير من التهم والمفتريات التي وجهت إليهم هادفا إلى إنقاذ الأمة المسلمة الهندية من العدوان الإنجليزي لأجل قيامهم بدور قيادي في الثورة. فبفضل مساعيه المذكورة  قد نجح في الدفاع عن المسلمين إلى حد بعيد، حتى تبدلت سياسة الحكومة قليلا وجنحت باللين إلى المسلمين، وفي عام 1862م، قد أعلنت الملكة الفكتورية العفو العام عن ثوار الثورة لعام 1857م.

حركة السير سيد أحمد خان التعليمية

وقف سيد أحمد خان حياته كلها لنشر التعليم العصري بين المسلمين ، ولقي في سبيل ذلك كل مشاكل بابتسامة، لأنه يؤمن بأن المسلمين فقدوا السيادة السياسية بسبب فقدانهم السيادة العلمية. وقد انحطوا في العلم بسبب انحطاط  مؤسساتهم التعليمية، فلم تستطع المسايرة مع الزمن. وإن مؤسساتهم التعليمية ملتزمة بطريقة التعليم القديمة مع التزامها بتدريس الشروحات والمختصرات لأمهات الكتب التي يخنق فيها الفهم والعقل والتي تهتم بجمل وألفاظ أكثر من اهتمامها بالفكرة والغاية. فتمس الحاجة إلى بدء حركة تعليمية جديدة تساير مع الزمن وتلبي احتياجات العصر وتقضي على تهديداته. وذلك لا يمكن بدون اتخاذ طريقة التعليم الأوروبي وبدون تلقى العلوم العصرية التي مكنت أوروبا من سيادتهم على العالم. وإن هذا التعليم الأوروبي انتشر في البلاد منذ دخول الإنجليز فيها. وأقبل عليه الهندوس إقبالا كبيرا منذ سنة 1791م.

ولكن المسلمين قد نفروا منها لأسباب عديدة؛ من أهمها أن نظام التعليم الإنجليزي هو الذي أضعف نظام تعليم المسلمين السائد منذ دخول المسلمين في البلاد في القرنين؛ العاشر والحادي عشر. وبالنتيجة حرموا من وظائف رسمية، كما أنهم شموا فيها رائحة التنصير، وشاهدوا فيها تعليم العلوم العقلية التي كانوا يعتبرونها مخالفة لعقائد الإسلام. ففي هذا الوضع السيئ عزم السير سيد أحمد خان على إطلاق حركة شاملة للتعليم بهدف تزويد المسلمين بالعلوم العصرية مع العلوم الشرقية من خلال إنشاء المدارس الحديثة وإصدار مجلات علمية وطبع كتب تاريخية توصل صلتهم بالعلماء القدماء الذين قدموا مساهمات علمية. وبفضل مساهماتهم العلمية قد حدثت النهضة العلمية في بلاد أوروبا بعدما تمت ترجمة مساهماتهم العلمية إلى لغاتهم وعلموها في مدارسهم وجامعاتهم.

وأول خطوة عملية اتخذها بصدد هذا هي إنشاء مدرسة حديثة عام 1861م في مدينة مراد آباد حيث كان متعينا كـ"صدر الصدور" يعني كنائب قاضي البلاد. ثم أنشأ مجمعا علميا في مدينة غازي فور عام 1862م بعد ما انتقل إليها من مدينة مراد آباد. وكان يهدف من وراء تأسيس هذا المجمع العلمي إلى ترجمة كتب علمية من لغات أوروبية إلى اللغة الأردية ليتمكن المسلمون الذين رفضوا الالتحاق  بالتعليم الإنجليزي من الاستفادة من الكتب المترجمة. وفي عام 1864م قد أسس مدرسة ثانية في مدينة غازي فور باسم "فكتورية اسكول". وهذه المدرسة قائمة حتى الآن ونشيطة في نشر العلم والمعرفة بين أهاليها. وفي عام 1867م أنشأ مجلة باللغتين: الأردية والإنجليزية باسم  “Aligarh institute gazette newspaper”  للنشر فيها مقالات سياسية ومقالات علمية، وكانت غايتها هي إطلاع الهنود على أحوال الإنجليز وإطلاع الإنجليز على أحوال الهنود. وفي عام 1867م بدأ حركة لتأسيس جامعة للغات المحلية وقد حاول محاولة جبارة لتحقيق هذا الهدف النبيل حتى إنه قدم طلبا إلى الحكومة أقنع فيها الحكومة ببراهين ودلائل إلى ضرورة تأسيس هذه الجامعة. ولكن عندما بدا له أن هذا الحلم لا يمكن أن يتحقق، فعزم على تأسيس جامعة للمسلمين على طراز جامعتي أكسفورد وكيمبردج. وصادف عزمه هذا ظهور كتاب"Life of Mohammad"لـ"السير وليم ميور" الذي هاجم فيه على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الإسلام. فثارت ثائرته وعقد العزم على كتابة رد لهذا الكتاب المذكور. فأراد السفر إلى لندن ليقرأ بها كتبا في هذا الموضوع  ويكتب جوابه، ولكن كان يمر بأزمة مالية لا يستطيع السفر إليها. فباع مكتبته ووضع بيته في الرهن. وسافر إلى لندن حيث قضى سنتين في دراسة نظام جامعتي أكسفورد وكيمبرج ونظام تعليمهما ليتمكن من إنشاء جامعة بعد رجوعه منها. كما أنه طالع عددًا كبيرًا من الكتب التاريخية حتى صنف كتابا سماه بـ"الخطبات الأحمدية" في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ردًا على ما كتبه السير وليم ميور في كتابه "حياة محمد" المذكور. كما أنه كتب كتابا في وصف رحلته الأوروبية باسم "سفرنامة" (حيات جاويد، ص: 121).

وعندما رجع السير سيد أحمد خان من لندن عام 1870م شكل هيئة تعليمية باسم الهيئة الحريصة على ترويج التعليم بين المسلمين في شهر ديسمبر عام 1870م لإيقاظ الوعي التعليمي بين عامة المسلمين. وكذلك أنشأ مجلة علمية باسم "تهذيب الأخلاق" على اسم رسالة ابن مسكوية بهدف خلق الوعي التعليمي بين المسلمين ووصلهم بماضيهم المجيد. واستعار السير سيد أحمد خان هذه الفكرة من لندن عندما سمع عن المجلة الإنجليزية "تيتلير" ومجلة "اسبيكتيتر" أنهما أحدثتا انقلابا في أوروبا من خلال نشر مقالات علمية. فعقد العزم على إصدار مجلة متشابهة المجلتين المذكورتين. فأنشأ مجلة "تهذيب الأخلاق" لتحقيق نفس الغرض، وأعلن في أول اجتماع "للهيئة الحريصة على ترويج العلوم بين المسلمين عن جوائز لكتَّاب أروع مقالات حول "أسباب تخلف المسلمين في التعليم" لهذه المجلة. فاستلمت المجلة نحو اثنتين وثلاثين مقالة  تلقي ضوءً كاشفا على أسباب نفور المسلمين من التعليم الإنجليزي. هكذا ابتدأت المجلة وأحدثت انقلابا علميا  في أسرع وقت. فإن مجلة "تهذيب الأخلاق" تنشر مقالات حول أسباب نفور المسلمين من التعليم العصري أولا، ثم تحاول إزالة هذه الأسباب من خلال ترغيبهم في تلقي التعليم الإنجليزي. فأحدثت المجلة مناقشات في الأوساط العلمية تحثها على التفكير في الإسلام ونظريته الشاملة في العلم الذي يدخل فيه العلوم العقلية والعلوم الإسلامية. فكل ذلك يغذي عقولا مغلقة ويسددها بآراء سديدة ويمهد الطريق لظهور كلية كان بصدد تأسيسها.

اقرأ أيضًا: الأستاذ الدكتور سيد إحسان الرحمن: مسيرة علمية حافلة بالتدريس والتأليف والترجمة

ففي 24 شهر مايو من عام 1875م أنشأ مدرسة عصرية باسم "مدرسة العلوم الشرقية والغربية"Mohammadan Anglo Oriental School"وقد تحولت من مدرسة إلى كلية، ثم ظلت الكلية تخطو خطى سريعة حتى إنها تحولت إلى جامعة عصرية عام 1920م. فمنذ ذلك الحين حتى الآن إنها مرت بأطوار مختلفة، حتى صارت جامعة مركزية في الهند المستقلة. وقد اشتهرت الجامعة في العالم كله لمساهماتها العلمية العظيمة. وهي تعرف الآن بـ"جامعة عليجراه الإسلامية".

د. محمود عالم الصديقي هو أستاذ مساعد بقسم اللغة العربية، جامعة كشمير، سريناغار، الهند