أ.د. رضوان الرحمن
التَّصَوُّف أو الصُّوفِيَّة هو مذهب إسلامي، لكن لا يتم اعتباره مذهب حسب وصفه الدقيق، بل إنه أحد مراتب الدين. إنَّ التصوُّف يهتم بالتربية والسلوك وتطهير النفس. على أن الصوفية ليست بمقتصرة على الإسلام فقط بل هذه الفكرة أيضًا سائدة في الأديان والأقطار الأخرى. ولكن كل أنواع الصوفية تهتم بالإحسان والرفاهية وتطهير القلوب وملأها بالعطف والمحبة وتحقيق الخلاص والفناء في الله.
تعريف التصوف
حسب القواميس والمعاجم، التصوف هو طريقة سلوكية أسسها التقشف والتحلي بالفضائل لتزكية النفس وسمو الروح. وله مجموعة المبادئ والممارسات التي يعتقدها المتصوفة، والآداب التي يتأَدبون بها في مجتمعاتهم وخلواتهم. وكلمة التّصوف نسبتها إلى الصّفاء حسب أبي القاسم القشيري، إمام الصوفية وصاحب الرسالة القشيرية في علم التصوف. وهناك احتمال آخر في تسميته وهو نسبته إلى أهل الصفّة الذين كانوا يقعدون في مؤخرة المسجد النبوي. ولكن أغلبية العلماء ومنهم ابن الفارس وابن تيمية وابن خلدون يشيرون إلى احتمال آخر في تسمية هذه الحركة ويقولون إن نسبة هذه الكلمة إلى الصوف لأن المهتمين بالتصوف كانوا يلبسون الصوف كثيرًا. وهناك تفاسير وحجج متباينة لتسمية الصوفية. وهناك جماعة من المستشرقين، ترى أن الكلمة مأخوذة من كلمة "صوفيا" اليونانية ومعناه "الحكمة" وحرّفتها العرب وأطلقوها على رجال التعبد والفلسفة الروحية. وعند اليونانيين الصوفية أيضًا تعني الإشراق والمحبة الإلهية. ولكن الشيء المشترك في جميع تسمياتها ومدلولاتها تشير إلى المحبة والتعبد والحكمة.
نشأة التصوف
نشأ التصوف بالبصرة، وأول من بنى ديرة التصوف بعض أصحاب عبد الواحد بن زيد (ت 798م) من أصحاب الحسن البصري رحمه الله. وذكر ابن خلدون في تاريخ ظهور التصوف مشيرًا إلى الكندي ويشير ظهوره بالإسكندرية من حيث الطائفة التي كانت تأمر بالمعروف وتعارض السلطان ويرأسها رجل معروف بأبي عبد الرحمن الصوفي. وكذلك ذكر المسعودي في "مروج الذهب" نقلا عن يحيى بن أكثم أن "المأمون يومًا لجالس، إذ دخل عليه علي بن صالح الحاجب، فقال: يا أمير المؤمنين! رجل واقفٌ بالباب، عليه ثياب بيض غلاظ، يطلب الدخول للمناظرة، فعلمت أنه بعض الصوفية". فهاتان الحكايتان تشهدان لكلمات ابن خلدون في تاريخ نشأة التصوف. وذُكر في "كشف الظنون" أن أول من سمّي بالصوفي هو أبو هاشم الصوفي المتوفى 767م.
وانتشرت حركة التصوُّف في العالم الإسلامي في القرن الثامن الميلادي كنزعة فردية تدعو إلى الزهد وشدة العبادة، ثمَّ تطوَر بعد ذلك حتى أصبح طرقًا مميّزة متنوعة معروفة باسم الطرق الصوفية. والتاريخ الإسلامي زاخر بعلماء مسلمين انتسبوا إلى التصوف مثل الجنيد البغدادي وأحمد الرفاعي وعبد القادر الجيلاني وأحمد البدوي وإبراهيم الدسوقي وأبي الحسن الشاذلي ومحي الدين بن عربي وشمس التبريزي، وجلال الدين الرومي والغزالي والعز بن عبد السلام وساند هذه الفكرة بعض القادة مثل صلاح الدين الأيوبي ومحمد الفاتح والأمير عبد القادر وعمر المختار وغيرهم. فانتشر التصوف في أرجاء البلدان الإسلامية في مختلف العصور من الشرق الأوسط إلى إفريقيا الشمالية والأندلس بحركة الكتاب والشعراء والعلماء والفلاسفة في هذه المناطق. وترك التصوف آثاره الخالدة في أرجائها حتى أسست الزوايا والأديرة التي أصبحت فيما بعد مراكز الدين والتعليم أيضًا.
التصوف في الهند
يرجع تاريخ التصوف في الهند إلى أكثر من ألف عام. والتصوف هو من أهم العناصر الذي سهّل الطريق لوصول الإسلام إلى جميع أنحاء جنوب آسيا. دخل الإسلام الهند في أوائل القرن الثامن، ولكن أصبحت التقاليد الصوفية أكثر وضوحًا خلال سلطنة دلهي. ومجموعة من أربع سلالات سلطنة دلهي المبكرة تتكون من حكام من تركيا وأفغانستان.
وإن تطور التصوف في الهند تأثر بشكل كبير بالتقاليد الصوفية والزهدية السائدة في بلاد فارس (إيران الحديثة) منشأ التصوف. وعندما سافر الصوفيون الفرس إلى الهند، أحضروا معهم تعاليم وممارسات التصوف الإسلامي المتأثر بالعناصر الفارسية والتي تردد صداها مع الميول الروحية للعديد من الهنود. ولكن اكتسب التصوف في الهند طابعًا فريدًا من نوعه لأنه دمج عناصر من الروحانية والتصوف الهنديين. وقد أدرك الأولياء الصوفيون التقاليد الروحانية القائمة في الهند وأدرجوها في ممارساتهم، مما جعل التصوف سهل الوصول إليها من قبل السكان المحليين. وقد ساعد هذا التكامل الصوفي على تجاوز الحدود الدينية والتواصل مع الناس من مختلف الخلفيات.
وأدّى الصوفيون الأوائل في الهند، الذين يشار إليهم باسم "الأولياء"، دورًا حاسمًا في نشر التعاليم الصوفية. وساد صيتهم بتقواهم وزهدهم وقدرتهم على جذب الأتباع برسالتهم عن التفاني الروحي والحب لله والفناء في الله. ومن بين الأولياء الصوفيين البارزين الأوائل خواجة معين الدين الجشتي وخواجة بختيار الكاكي والشيخ نظام الدين أولياء الذين أنشأوا زواياهم في مختلف المناطق الهندية.
والتصوف له سلاسل أو طرق مختلفة وكلها منتسبة إلى الصوفيين المعروفين. فهناك طرق شهيرة تعرف بطرق مدارية وقادرية ورزاقية وشاذلية وجشتية وسهراوردية وكبروية ونقشبندية ومجددية وسرورية وقادرية وفردوسية وتيجانية وخلوتية. ولكن أكبر وأشهر الطرق الصوفية في الهند هي الطريقة الجشتية التي أسسها الصوفي خواجة معين الدين الجشتي من مدينة أجمير وتلي الطريقة السهراوردية للصوفي شهاب الدين السهراوردي من ملتان. كما اشتهرت أفكار الطريقة النقشبندية وعلى رأسها خواجة بهاء الدين النقشبندي من دلهي. وساد صيت الطريقة القادرية لعبد القادر من بنجاب ومن أتباعه أو مريديه الأمير المغولي دارا شكوه. واشتهرت الطريقة الفردوسية التي أسسها الشيخ بدر الدين السمرقندي ومن أكبر متبعيه في الهند هو شرف الدين المنيري وزاويته كانت في ولاية بيهار. وأسس الشيخ نور الدين ولي طريقة رشي في ولاية كشمير. وجميع هؤلاء الصوفيين أسسوا زواياهم (في الهند كلمة "خانقاه" تستعمل للزاوية) ومراكزهم في مختلف أرجاء شبه القارة الهندية في مختلف العصور من التاريخ ودرّسوا تلاميذهم دروس الزهد والأخلاق والإخلاص والإخاء والمحبة وأرسلوهم إلى مختلف الأماكن لنشر تعاليمهم.
ميزات التصوف
لكل حركة ونزعة ولو كانت سياسية أو اجتماعية ميزاتها. فالحركة الصوفية في الهند لها ميزاتها المنفردة. ومنها تعزيز الفكرة اللبرالية ونشر مفهوم وحدة الوجود وخدمة المحتاجين والتركيز على المساواة والأخوة والدعوة إلى الإصلاحات الاجتماعية والـعمل لإثراء الثقافة والاندماج الثقافي. وتم ترويج هذه الأفكار بمجهودات الصوفي نظام الدين أولياء والشاعر أمير خسرو وبابا فريد والشيخ حميد الدين وسيد غيسو دراز وغيرهم من أتباع كبار الصوفيين. وإن الصوفيين يؤكدون على أهمية الطهارة الداخلية ويعتبرون الحب والإخلاص الوسيلة الوحيدة لتحقيق الخلاص. وبالإضافة إلى ذلك، كان بعض الصوفيين يولون أهمية كبيرة للتأمل والأعمال الفاضلة والتوبة والصلاة والحج والصيام والصدقة وضبط النفس.
اقرأ أيضًا: المسلمون في مانيبور من منظور تاريخي وثقافي
ولقد شكّل التصوف المشهد الثقافي والروحي للهند بشكل كبير. وتجذر التصوف في الحب والإخلاص، وأكد على العلاقة المباشرة مع الله التي تتجاوز الحدود الدينية. وعززت الخانقاهات أو الزوايا للطرق الصوفية، بقيادة المرشدين الروحيين النمو الروحي والتحول الشخصي. وروّجت اندماج الثقافات والأديان المحلية وعززت فكرة التسامح والوحدة. كما ساهم التصوف في إنتاج الأدب والإصلاح الاجتماعي والمساواة وترك بصمة عميقة الأثر في تاريخ الهند. ومع ذلك، فقد واجه تحديات، بما فيها المقاومة من قبل المتعصبين والمحافظين والتلاعب السياسي والمناقشات حول فكرة وحدة الوجود. ولكن يكمن التأثير الدائم للتصوف في ترويج الود والوحدة والخدمات الإنسانية.
أ.د. رضوان الرحمن هو أستاذ بمركز الدراسات العربية والإفريقية ورئيسه سابقًا، جامعة جواهر لال نهرو، نيو دلهي