صناعة الشال العريقة في كشمير: أهمية اقتصادية وثقافية

Story by  Prof. Mujeebur Rahman | Posted by  M Alam | Date 02-09-2024
صناعة الشال العريقة في كشمير: أهمية اقتصادية وثقافية
صناعة الشال العريقة في كشمير: أهمية اقتصادية وثقافية

 

أ.د. مجيب الرحمن

صناعة الشال في كشمير تُعتبر من أعرق الصناعات اليدوية في شبه القارة الهندية، إذ تعود أصولها إلى العصور القديمة، حيث بدأت كحرفة صغيرة تعكس تراث المنطقة وتطورت لتصبح رمزًا عالميًا للجمال والفخامة. وهذه الصناعة ليست مجرد مصدر رزق لسكان كشمير، بل هي جزء من هويتهم الثقافية ومرآة لتاريخهم الغني والعريق. وعلى مدى قرون، حافظ الحرفيون الكشميريون على أسرار وتقنيات صناعة الشال، التي تنتقل من جيل إلى جيل، محافِظةً بذلك على مكانتها الفريدة في السوق العالمية. يتناول هذا المقال تطور صناعة الشال في كشمير عبر الزمن، بدءًا من بداياتها المتواضعة وصولاً إلى شهرتها العالمية، إضافةً إلى استعراض التأثير العميق لهذه الصناعة على الحياة الاقتصادية والثقافية لسكان المنطقة. وسيتناول المقال أيضًا التحديات التي واجهتها هذه الصناعة، سواء من ناحية التغيرات الاقتصادية أو التأثيرات الخارجية، وكيف استطاعت أن تصمد أمام تحديات الزمن وتتكيف مع التغيرات لتستمر في إبهار العالم بجودتها وجمالها وألقها.

تاريخ صناعة الشال في كشمير

تعود أصول الشالات الكشميرية إلى عصور قديمة، حيث يُعتقد أنها كانت مشهورة حتى في زمن الإمبراطور أشوكا في القرن الثالث قبل الميلاد. ومع ذلك، يُنسب الفضل في تنظيم وتنمية وترويج هذه الصناعة إلى السلطان زين العابدين (1420-1470م). كان السلطان زين العابدين الأكبر حاكمًا مستنيرًا متبصرًا، فأولى اهتمامًا كبيرًا بالفنون والحرف، مما ساعد في ترسيخ صناعة الشال كواحدة من أهم الحرف في كشمير. واستورد زين العابدين تقنيات نسج جديدة من بلاد فارس وتركستان، مما أدى إلى تحسين جودة الشالات وزيادة تنوعها. وقد أصبحت الشالات المصنوعة من الباشمينا، أو ما يسمى بالفارسية "باشم"، إحدى العلامات التجارية الشهيرة لكشمير، حيث تمتاز بنعومتها الفائقة ودفئها الممتاز.

التأثير الثقافي للشالات الكشميرية

تُعد الشالات الكشميرية أكثر من مجرد أقمشة تُلبس للدفء؛ فهي تعكس تاريخًا طويلًا من التفاعل الثقافي والفني بين الحضارات المختلفة. ومنذ القرون الوسطى، تأثرت صناعة الشال في كشمير بالعديد من الثقافات التي حكمت المنطقة، بما في ذلك المغول والأفغان والسيخ. وتحت حكم المغول، الذين ضموا كشمير إلى إمبراطوريتهم في عام 1586م، ازدهرت الفنون والحرف، بما في ذلك صناعة الشال. استورد المغول نساجين من تركستان، الذين جلبوا تقنيات نسج متقدمة كانت تستخدم في صنع الشالات.

كما كان للشالات الكشميرية مكانة مرموقة في البلاطات الملكية، حيث كانت تُقدّم كهدايا فاخرة تُمنح لكبار الشخصيات. ويظهر ذلك بوضوح في الرسومات المصغرة من تلك الفترة، حيث كان الشال يُعتبر رمزًا للمكانة الاجتماعية. ومع مرور الزمن، انتشرت الشالات الكشميرية إلى خارج الهند، وغدت محط اهتمام الأوروبيين، خصوصًا في فرنسا وبريطانيا، حيث كانت النساء الأرستقراطيات يرتدينها كرمز للأناقة والفخامة والموضة.

الأهمية الاقتصادية لصناعة الشال في كشمير

على مر القرون، أضحت صناعة الشال في كشمير جزءًا حيويًا من اقتصاد المنطقة ومصدرًا رئيسًا للرزق لمئات الآلاف من الأسر. فهذه الصناعة التقليدية، التي تعود جذورها إلى عصور غابرة، لم تكن مجرد حرفة يدوية بسيطة، بل تطورت لتصبح عمودًا فقريًا للاقتصاد الكشميري. وتشير التقديرات إلى أن قيمة صناعة الشال الكشميري السنوية تتجاوز 100 مليون دولار، ما يجعلها أحد أكبر مصادر الدخل في المنطقة.

لقد وفّرت هذه الصناعة فرص عمل لما يزيد عن 200,000 حرفي في كشمير، حيث تعتمد العديد من العائلات بالكامل على دخلها من هذه الصناعة. والشالات الكشميرية، بألوانها الزاهية وتصاميمها المعقدة، لا تزال تلقى رواجًا عالميًا؛ إذ كانت  تصدّر إلى مختلف أنحاء العالم، من أوروبا إلى الشرق الأوسط وحتى أمريكا الشمالية. وفي القرن التاسع عشر، بلغت صناعة الشال الكشميري ذروة ازدهارها، حيث شهدت زيادة هائلة في الطلب من أوروبا، خاصة في فرنسا وبريطانيا. وفي تلك الفترة، كانت الأسواق الأوروبية تقدر الشالات الكشميرية بآلاف الجنيهات الإسترلينية، مما أدى إلى تعزيز الاقتصاد المحلي في كشمير بشكل ملحوظ.

على سبيل المثال، في عام 1850م، قُدّر عدد الشالات المصدرة إلى أوروبا بأكثر من 50,000 شال سنويًا، وكان سعر الشال الواحد في بعض الأحيان يعادل دخل عامل بريطاني لمدة عام كامل. وهذا الطلب الكبير لم يساهم في رفع مستوى المعيشة للحرفيين الكشميريين فقط، بل أدى إلى ازدهار التجارة المحلية ونمو المدن المحيطة بمراكز الإنتاج.

لكن، وعلى رغم ازدهار الصناعة، لم تكن الأوضاع جيدة دائمًا؛ فقد واجهت الصناعة تحديات جسيمة. وفي أواخر القرن التاسع عشر، أدت الحرب الفرنسية البروسية (1870-1871) إلى تعطيل التجارة مع الشرق بشكل كبير، مما أثّر سلبًا على صادرات الشالات الكشميرية إلى أوروبا. كما أن تغيرات الموضة الأوروبية خلال تلك الفترة، حيث بدأت النساء يفضلن الأنماط الأكثر بساطة وعملية، أدى إلى تراجع الطلب على الشالات الكشميرية التقليدية واستبدالها بمنتجات أخرى.

هذه التغيرات الاقتصادية والثقافية أثرت بشكل كبير على صناعة الشال في كشمير، حيث وجد العديد من الحرفيين أنفسهم بلا عمل، وانخفضت عائدات الصناعة بشكل ملحوظ. وفي العقد الأخير من القرن التاسع عشر، تقلص عدد الحرفيين في هذه الصناعة بنسبة 50%، ووقعت العديد من الأسر في براثن الفقر، بعد أن كانت تعتمد بشكل رئيس على هذه الحرفة العريقة.

ورغم هذه التحديات، استطاعت صناعة الشال الكشميري أن تصمد أمام الزمن، لتبقى حتى يومنا هذا رمزًا للفخامة والأناقة والجمال، وشاهدًا حيًّا على قدرة كشمير على التكيف والابتكار في مواجهة التغيرات والتحديات العديدة منها مثلاً: محاولات أوروبية لتقليد الشالات الكشميرية باستخدام تقنيات النسج الميكانيكية، مثل نول الجاكارد الذي سمح بإنتاج شالات معقدة التصاميم بكميات أكبر، إلا أن النساجين الكشميريين حافظوا على تقنياتهم التقليدية، مما حافظ على جودة الشالات وتميزها في السوق العالمية.

حتى اليوم، هناك طلب كبير على شالات كشمير باعتبارها رمزًا للأناقة والجمال، ولا تزال تمثل جزءًا مهمًا من التراث الثقافي والاقتصاد المحلي في كشمير. وعلى رغم المنافسة العالمية والتحديات الاقتصادية والسياسية، لا تزال هذه الصناعة تحافظ على مكانتها بفضل الحرفيين الذين يواصلون العمل على إحياء هذا التراث العريق.

فإن صناعة الشال في كشمير تتجاوز حدود الحرفة التقليدية لتغدو تجسيدًا حيًّا لتاريخ طويل من الإبداع الفني والتفاعل الثقافي العميق. فهي مرآة تعكس بجلاء روعة التراث الكشميري، الذي يتسم بتنوعه وثرائه عبر العصور. وهذه الصناعة لم تكن مجرد وسيلة لكسب العيش، بل كانت وما زالت رمزًا متجذرًا في الهوية الثقافية والاقتصادية لهذا الإقليم العريق، حيث امتزجت خيوط النسيج بخيوط التاريخ لتنسج حكاية هذا المكان.

اقرأ أيضًا:

خمسة وعشرون حرفيًا عملوا ثماني سنوات لنسج أكبر سجادة في آسيا في كشمير

أهمية الانتخابات المقبلة لمستقبل جامو وكشمير

والشالات الكشميرية ليست مجرد منتجات نسيجية تُعجب بها الأعين، بل هي أعمال فنية تحمل بين طياتها دقة الإتقان وفخامة الجمال، مما يمنحها مكانة رفيعة في قلوب عشاق الجمال حول العالم. فهي تحظى بتقدير كبير ليس فقط لجودتها، بل لأنها تمثل ثقافة عريقة تروي قصصًا من الماضي بحرفية تامة، وهي شاهدة على عظمة التراث الكشميري وجماله الأخاذ. وهذه القطع النسيجية ليست مجرد أقمشة عادية، بل هي قصائد منسوجة بأيدي الحرفيين المهرة، تعبر عن تاريخ طويل من الفخر والتميز. وفي كل خيط من خيوطها، ينعكس صدى الأجيال وتفرد الثقافة الكشميرية التي تأبى أن تندثر.

أ. د. مجيب الرحمن هو رئيس مركز الدراسات العربية والإفريقية بجامعة جواهر لال نهرو، نيودلهي