محمد معراج عالم الندوي: نيودلهي
تعد جامعة جواهر لال نهرو من أشهر الجامعات الهندية، وهي تقع في نيودلهي. ومناخها طبيعي وجوها مريح، لأنها تقع بين الأشجار الخضراء الوارفة. ومع حلول موسم الربيع، يزداد البهاء والجمال في حرم الجامعة، إذ تتفتح الأزهار متدلية على الأشجار الطويلة على حافتي الشارع وقرب المكتبة المركزية "مكتبة أمبيدكر". وعندما ينتهي الربيع يعود الخريف فتغادر الأزهار الحمراء الأشجار وتسقط على الشارع منثورة حيث تبدو الجامعة كأن عنقها حليت بالأزها الحمراء. ومن المعلوم أن المناخ يؤثر تأثيرًا كبيرًا في الإنسان، فأدخل مناخها الزهراوي الأخضر المحبة والمودة والتسامح في قلوب الطلبة والأساتذة، فيتعايشون فيها بسلم رغم اختلاف الأعراق والثقافات والأديان، وكل شخص حر في نظريته وموقفه، فالطلبة يعيشون حسب ما يعتقدون ويؤمنون به، ويحترمون بعضهم البعض في معتقداتهم وأهوائهم، وأكبر نموذج لهذه الظاهرة شهر رمضان المبارك.
والطلبة المسلمون في جامعة جواهر لال نهرو في الأقلية، بينما أغلبية الطلبة ينتمون إلى ديانات أخرى، ولكن التسامح والإخاء متفشيان في رحاب الجامعة، ويخيم جو المودة والمحبة على الدارسين، ولا تجد سلطوية الأغلبية سبيلاً إليها.
وشهر رمضان مثال حي على ذلك، إذ إن أغلبية الطلبة من الديانات الأخرى، ولديهم روتين يومي لتناول الطعام حيث يوفّر مطعم السكن للطلبة المقيمين في السكن الوجبات ثلاث مرات يوميا وهي وجبة الفطور ووجبة الغداء ووجبة العشاء، ولكن عندما يحل شهر رمضان الكريم يتغير وقت الطعام لأقلية الطلبة من المسلمين، فهم يتسحرون ويفطرون على نقيض عادات أغلبية الطلبة، ورغم كل ذلك لا يختل النظام، ولم يكن للطلبة المسلمين أن يشعروا بالغربة، وذلك بفضل دعم من العاملين في المطبخ والطلبة الآخرين المتميزين بالتسامح.
ويستقبل الطلبة المسلمون في حرم الجامعة شهر رمضان استقبالاً حارًا، ويستعدون بشكل جيد لأداء الواجبات في شهر رمضان، حيث يتم تشكيل لجنة رمضانية في كل سكن من عدة طلبة يترأسها واحد منهم بينما يعمل الآخرون كعضو لإدارة الشؤون الرمضانية فيهتمون بتوفير الوجبات في الإفطار والسحور. ويتم تشكيل اللجنة في اجتماع ينعقد تحت إشراف رئيس السكن، ويحضر فيه الطلبة مبتهجين ومسرورين، لأنهم يجتمعون لغرض الترحيب بضيف يحل لشهر واحد فقط في كل سنة، ومن ثمة يؤدون الطقوس الرمضانية جيدًا ولا يجدون حرجا في أدائها، بل يتلقون حفاوة بالغة واستقبالا من إدارة المطبخ والسكن، ويحترم الطلبة من الأغلبية من الهندوس والنصارى وغيرهم شهر رمضان، ويظهرون الانسجام والمودة، وهذه ظاهرة يشهد بها الإفطار والسحور وأداء صلاة التراويح في مختلف الأماكن والاحتفال بعيد الفطر داخل الحرم الجامعي.
الطقس الرمضاني المهم الذي يبدو أكثر جاذبية هو الإفطار، وفي قاعة الطعام من كل سكن يتناولون الإفطار. وقبل وقت الإفطار بساعة يجتمع الطلبة في قاعات الطعام، ويقطعون الثمار الطازجة المختلفة، ويشتركون في تحضير الوجبات اللازمة للإفطار. والجدير بالذكر أن العمال في المطبخ يساعدون في تحضير بعض الأكلات مثل الباكورا والجورا ...، وهم يرون من واجباتهم طبخ بعض الأكلات محل الغداء، وعندما ينتهون من الطبخ يأتي دور الطلبة، فهم يتناوبون يوميا في إعداد المشروب بالليمون وتوزيع الوجبات في الأطباق، ويضعون الأطباق المليئة بأنواع من المأكولات على الطاولة بشكل منتظم، ويجلس الطلبة متحلقين حول الطاولة، والباب للإفطار مفتوح للجميع بغض النظر عن العرق والديانة والثقافة. ويهتم الطلبة المسلمون باصطحاب بعض زملائهم من الديانات الأخرى في الإفطار، ويحضر الطلبة من غير المسلمين بشوق ورغبة في الإفطار تعبيرًا عن انسجامهم مع زملائهم المسلمين، وبالإضافة إلى ذلك تجذب الأنواع المتنوعة من الأكلات اللذيذة التي تهيأ للإفطار الطلبة إليها بما فيها الفواكه المتنوعة مثل الموز والتفاح والرمان والعنب والتمر والقثاء والبرتقال والباكورا والحمص وغيرها من المأكولات محلية الصنع، فتهوى أفئدتهم إلى حضور الإفطار للاطّلاع على الطقوس الرمضانية التي يؤديها المسلمون في شهر رمضان، لأن جامعة جواهر لال نهرو تعرف بالانفتاح الحضاري ويتميز الطلبة بالمرونة في أهوائهم ومعتقداتهم، ولا يزالون يشتاقون إلى مزيد من الاطلاع على الحضارات المختلفة. فنظرًا إلى ذلك يهتم الطلبة المسلمون في العشر الأواخر من رمضان بإقامة موائد الإفطار الجماعي على مستوى الجامعة، وهذه بمثابة عيدهم، لأن المقيمين في حرم الجامعة ينتظرونها بفارغ الصبر منذ حلول رمضان، ويتلهفون إليها، إذ هذا تجمع رمضاني يجتمع فيه الجميع من الأساتذة والطلبة والعمال ويتبادلون مشاعرهم الودية وعواطفهم التي تجيش بالانسجام الطائفي.
وهذا يجري في كل سكن تقريبا نوبة بعد نوبة، فتنقضي العشر الأواخر من رمضان معطرة بعطر المحبة ومسك الأخوة التي تفوح رائحتها في كل زاوية من زوايا حرم الجامعة، فما إن يتم الإعلان عن حفل الإفطار على مستوى الجامعة حتى تتلهف القلوب بحلول الموعد، وعندما يأتي اليوم الموعود تسيل سيول من الطلبة إلى السكن الذي أُقيم فيه حفل الإفطار الجماعي، وتضيق ساحة قاعة الطعام الخارجية بالحضور فضلا عن داخلها، وينتظر الجميع وقت الإفطار قائمين وجالسين سواء أكانوا مسلمين أو متدينين بديانات أخرى. وبالمناسبة، يلقي أحد من الطلبة خطابا مختصرا يتناول فيه أهمية الصيام في ديانة الإسلام وفوائد الصيام الطبية، فنظرا إلى ذلك بعض الطلبة من غير المسلمين يصومون مع زملائهم المسلمين إظهارا للتعاطف والتوادد ورغبة في الحصول على الفائدة الطبية. والتكلفة المالية لإقامة حفل الإفطار الجماعي مدفوع من قبل الطلبة. وبالجملة حفل الإفطار الرمضاني مظهر من مظاهر الأخوة البشرية المتمثلة في رحاب جامعة جواهر لال نهرو.
ولا يكتفي الطلبة بالطقوس الظاهرة فقط، بل يهتمون بالعبادة والجانب الروحاني أيضًا. ومن المعلوم أن بيئة جامعة جواهر لال نهرو بيئة علمية وأدبية فيسودها طابع علمي دون طابع ديني حيث لا يوجد فيها مسجد ولا معبد، ولكن كل شخص حر في عقيدته، فالطلبة المسلمون يؤدون صلاة التراويح في كل سكن، ويحددون المكان الفارغ في أي زاوية أو على سقف في سكنهم، حيث يتجمعون لأداء صلاة التراويح، وبالإضافة إلى ذلك يحددون مكانا يسع لعدد كبير من المصلين حيث يتجمع الطلبة والأساتذة المسلمون بعدد كبير، فهو بمثابة المسجد الجامع.
مائدة الإفطار الجماعي في حرم #جامعة_جواهر_لال_نهرو بنيودلهي.#آواز_دي_وايس #رمضان #المسلمون_في_الهند #الصيام @JNU_official_50 @MinOfCultureGoI pic.twitter.com/19ude7WTHC
— AwazTheVoice Arabic- صوت الهند (@AwazArabic) April 10, 2024
ومن ثمة تنقضي الليلة في شهر مضان في العبادة والتلاوة، ويتسحرون اتباعا للسنة، ولا يقصرون فيه بسبب التكاسل، وتعمل اللجنة الرمضانية بكل نشاط للقيام بالأعمال اللازمة للتسحر، حيث يبدأ المتطوعون منذ منتصف الليل طبخ الطعام للتسحر ساهرين، وهم يتناوبون يوميا في تحضير الطعام للتسحر. وأما أنواع الطعام في التسحر فهي الموز والحليب والخبز المدقق، وفي بعض الأيام يتم طبخ البرياني. وعندما يحين العيد، تجتمع اللجنات الرمضانية لجميع الأروقة وتقرر إقامة حفل العيد (عيد مِلَن) الذي يكون بمثابة الملتقى للمتدينين بمختلف الديانات، وهذه عادة جارية تعود عليها الهنود من المسلمين لتبادل المحبة ومشاعر الفرح مع إخوانهم المواطنين من الديانات الأخرى. ولتحقيق هذا الغرض يتم اختيار قاعة الطعام في أي سكن، وفي معظم الأحيان يتم تعيين قاعة الطعام لسكن بيريار، ويأتي إليه الجميع بعد صلاة عيد الفطر، بمن فيهم الطلبة المسلمون والأساتذة والموظفون في الإدارة والعمال في التنظيف، ويتبادلون التهاني والتبريكات مع بعضهم البعض بمناسبة حلول عيد الفطر، وهكذا تنتهي الرحلة الرمضانية التي يقطعها الطلبة مستفيدين من بركة الصيام ومفعمين بروح الأخوة والمحبة.