سمريتي موكارا وفيناياك سوريا سوامي
مع شروق الشمس فوق نهر الغانج تتلألأ أشعة الشمس الذهبية كخيوط رقيقة على امتداد صفحة النهر الهادئ، وتنعكس كذلك على مصاطب ضفاف النهر حيث يؤدي المتعبدون صلواتهم وبينما يستعد أصحاب المراكب لاستقبال يوم جديد... كل هذه المشاهد ترصد طبيعة الحياة اليومية صباح كل يوم جديد في مدينة فاراناسي القديمة بولاية أوترا براديش.
على بُعد بضعة كيلومترات من مصاطب النهر حيث الحارات الضيقة التي لم تصل إليها أشعة الشمس بعد في منطقة بيليكوثي يستيقظ عمال النسيج ليبدأوا عملهم الروتيني المعتاد في كل صباح. ويقوم هؤلاء العمال بإزاحة قطع القماش القطنية القديمة التي تغطي أنوالهم للبدء في العمل. وعلى الضوء الأصفر المنبعث من المصباح المتدلي من السقف المنخفض للمنزل القديم، يتلألأ قماش الساري نصف المنسوج بخيوطه الحريرية الحمراء البراقة الذي يضاهي في روعته وجماله الذهب الخالص الذي يستخدم في نسيج أقمشة الأثرياء الفاخرة. ويمتد الساري على النول وهو يكاد يكون في حالة شبه مكتملة. ويقوم العامل على النول بتحريك عارضات الخشب ليسمع صوت احتكاكها ببعضها البعض، بينما يضغط على دواسة النول في الأرضية ويأخذ المكوك من الغزل المتوفر ليطول النسيج ويكبر حجم الساري شيئًا فشيئًا. ويوجد فوق العامل مجموعة طويلة من قطع الورق المقوى بها ثقوب تحدد طريقته في تحريك النول والتحكم في الخيوط لتشكيل النمط المطلوب على الساري.
ويكاد يكون من الصعب على المرء تصديق أن قصة غزل النسيج الملكي في الهند المعروف باسم ساري باناراسي قد بدأت من هذه البقعة.
الممثلة أنوشكا شارما ترتدي الساري التقليدي من باناراسي مصنوع يدويًا (الساري من إبداع مصممة الأزياء سابياساشي موكيرجي من فاراناسي) وذلك خلال فعاليات الاحتفال بزفافها على لاعب الكريكيت الهندي فيرات كوهلي
التاريخ
يقول التاريخ إن مدينة فاراناسي كانت مركزًا شهيرًا لنسج القطن خلال الفترة الأولى من ظهور البوذية. وقد ورد ذكر روعة وجمال النسيج القطني المصنوع في هذه المدينة في النصوص البوذية التي يعود تاريخها إلى خمس مئة عام قبل الميلاد. وثمة إشارات إلى أن الأقمشة القطنية والحريرية كان يستخدمها الرهبان البوذيون. ويقال أيضًا إن توافر النساجين المهرة في المدينة علاوة على خصائص التبييض في مياه نهر الغانج جعل هذه المدينة مركزًا لصناعة النسيج.
ويقول بعض المؤرخين إن حكايات جاتاكا الخالدة ونصوص بالي تؤكد بالدليل القاطع على وجود تجارة رائجة في المنسوجات على ضفاف النهر المقدس في كاشي أو فاراناسي كما كان يطلق على المدينة آنذاك. وعلى مر السنين ومع وصول التجار عبر النهر، تطورت تقنيات صناعة النسيج بل استوعبت تأثيرات مختلفة من كافة أنحاء الهند وكذلك من جميع أنحاء العالم. وخلال حكم الإمبراطور المغولي أكبر (1556-1605) تحول التركيز من نسج القطن إلى نسج الحرير مع إضافة زخارف ذهبية خالصة. وقام النساجون المسلمون المهرة، الذين هاجروا إلى الهند مع المغول، بجلب فن نسيج يعتمد على تصميمات دقيقة باستخدام خيوط ذهبية وفضية عرفت باسم كينكهاب. وجعلت عملية الدمج بين التصميمات الهندوسية والإسلامية في العمل ذلك النسيج أكثر تفردًا. ويمكن أن نرى حتى اليوم هذه التأثيرات في أشكال ساري باناراسي: مثل أوبادا باناراسيس (في ولاية آندهرا براديش)، وباتولا باناراسيس (في ولاية غُوجارات)، وبيتاني باناراسيس (في ولاية مهاراشترا).
وتعد تقنية إبداع النسيج الخاص بعمل ساري باناراسي عملية معقدة وشاقة وتستغرق وقتًا طويلاً. وهذه هي الأسباب في تراجع إنتاج الساري الحرير التقليدي المنسوج يدويًا في فاراناسي. وحل محل هذا الساري اليدوي إما الأقمشة الحريرية أو خيوط الحرير الخالص المنسوجة على الأنوال الكهربائية.
وبعد عقود من الإهمال، بدأت عملية إحياء تقنيات النسيج التقليدية في هذه المدينة، وذلك بفضل مجموعة من مصممي الأزياء علاوة على بعض المبادرات التي اتخذتها الحكومة الهندية لإحياء هذه المنسوجات. وبدأت تشهد هذه الحرفة نهضةً واضحةً خلال السنوات القليلة الماضية.
عارضتا أزياء ترتديان ساري منسوج في فاراناسي بتصميمات عصرية
عملية الإحياء والنهضة
لم تكن رحلة إحياء ونهضة هذه المنسوجات بالسهلة على الإطلاق. لقد جاءت الدعوة إلى إحياء هذا النوع من النسيج في وقت ازدهار الأنوال الكهربائية وتفوقها إنتاجيًا على منسوجات باناراسي المنسوجة يدويًا. وعلى الرغم من أن الأقمشة الحديثة يتم إنتاجها بشكل أسرع وبتكلفة أقل بكثير، إلا أنها تفتقر إلى نعومة المنتج النهائي مقارنة بتلك المغزولة على الأنوال اليدوية. كانت الخطوة الأولى في عملية النهضة هي تشجيع النساجين على العودة إلى الأنوال اليدوية التي طالتها يد الإهمال. وعندما بدأ العملاء المميزون في زيادة الطلب على شراء هذه النوعية من الأقمشة المصنوعة بحرفية عالية وترويج المشاهير للمنسوجات المصنوعة يدويًا، بدأ النساجون في العودة لأنوالهم اليدوية لإبداع أعمالهم الفنية.
رحلة النهضة حتى الآن
تتزين منسوجات باناراسي بصورة تقليدية ببعض الموتيفات أو الوحدات الزخرفية في التصميم وتتألف من زهور وأوراق نباتات ونصوص أصلية قديمة تسمى نامافالي. لكن العملاء في العصر الحديث يتطلبون تصميمات جديدة مبتكرة. ولذلك، فقد تم تعديل أنماط التصميم وتحسين جودة الغزل لإنتاج الساري الذي يمكن أن يجمع بين إرث الماضي وعراقته وحداثة العصر الحالي وبذلك تم استعمال ألوان جديدة. وبالنسبة للنسيج اليدوي فإن الازدواجية في خيط النسيج لا تحدث سوى عن طريق الخطأ البشري. وبدأت تقنيات وأساليب النسيج اليدوي تنتقل للأجيال جيلا بعد جيل من خلال تعليم كيفية صناعة الساري التقليدي في شكله الأصلي. وهناك عامل مهم آخر ساهم في دعم هذه النهضة هو الترويج لمجموعة مهارات يمتلكها النساجون لأنه عندما لا يحتاج جيل إلى مهارة معينة، فإنهم لا يتعلمونها ولا يمارسونها ومن ثم يفقدونها للأبد. ويتم الآن تدريب الأجيال الشابة من النساجين على يد نساجين أكبر سنًا بحيث يعيش هذا التراث العريق وتتوارثه الأجيال.
اقرأ أيضًا: صناعة الخيزران في الهند واستخدامه المتنوع
ومن بين العوامل الأخرى البارزة التي ساهمت في عملية النهضة أنه في عام 2009م تم سن تشريع "باناراس بروكيد وساري" ليحافظ على الحقوق الجغرافية المؤمنة لهذه المنطقة وحقها في هذا المنتج مما يحظر تكرار تصنيع هذا المنتج في أي مكان آخر. بمعنى آخر، فإن هذا التشريع يعني أنه لا يمكن بيع أو تصنيع أي قماش ساري مماثل خارج المناطق الست المحددة في ولاية أوترا براديش بشكل قانوني تحت العلامة التجارية ساري باناراسي وبروكيد. ثم جاءت علامة النول اليدوي التي أقرتها حكومة الهند بوصفها العلامة المميزة للمنسوجات المصنعة يدويًا لتمنحه ميزة تنافسية أمام المنسوجات المصنعة آليًا. وفي عام 2014م، ساهم مركز تسهيل التجارة الذي أسسه رئيس الوزراء الهندي ناريندرا موديفي إعطاء دفعة لصناعة المنسوجات اليدوية.
اقرأ أيضًا: لوحات مادهوباني: شكل فني رائع من منطقة ميثيلا
ويتوافر في المجتمع الهندي حاليًا عدد كاف من الراغبين في شراء هذا النوع من المنسوجات اليدوية وهو عامل يحفز عملية الحفاظ على هذه الصنعة. ومن هنا، نجد أن منسوجات باناراس التقليدية تسير على الطريق الصحيح نظرا لرواج العلامة التجارية للحرف اليدوية الهندية المصنوعة يدويًا بصورة كبيرة. ولم يكن ممكنًا تحقيق هذه النهضة دون الوضع في الاعتبار أن يحظى النساجون العاملون في هذه الصنعة بالقدر الكافي من الاحترام والتقدير لما يبدعونه من أعمال.
هذا المقال مأخوذ من مجلة "آفاق الهند" الصادرة عن وزارة الشؤون الخارجية الهندية.