د. عظيم أنور
تعد مدينة جونفور، الواقعة في جنوب شرق ولاية أترابراديش شمال الهند، واحدة من المدن التي تتمتع بأهمية تاريخية وثقافية كبيرة. تقع المدينة على ضفاف نهر غومتي، على بعد حوالي 55 كيلومترًا شمال غرب مدينة فاراناسي. وعلى مر العصور، حافظت جونفور على مكانتها كمركز للعلم والثقافة، وبرزت بمعالمها التاريخية المميزة.
وتاريخيًا، كانت مدينة جونفور تُعد من أبرز المراكز العلمية والثقافية في الهند، حتى إنها اكتسبت شهرةً واسعةً لدرجة أن الإمبراطور المغولي شاه جهان أطلق عليها لقب "شيراز الهند"، تشبيهًا بمدينة شيراز الإيرانية التي كانت مركزًا علميًا وثقافيًا كبيرًا. ويعكس هذا اللقب مكانة جونفور البارزة وقتذاك، حيث كانت مقصدًا للطلاب والعلماء من مختلف أنحاء الهند وخارجها لدراسة العلوم الإسلامية واللغتين العربية والفارسية.
ولم تكن جونفور مجرد مركز للتعلم الحديث، بل أدّت دورًا بارزًا في التعليم منذ العصور الوسطى، حيث اجتذبت طلابًا من مختلف المناطق لدراسة العلوم الشرعية والأدبية. وأسهم هذا النشاط العلمي في تأسيس مجتمع مثقف ومتعدد الثقافات. كما كانت مركزًا لنشر التصوف، مما عزّز التعايش السلمي والتسامح الديني. وكان من أبرز الشخصيات التي تلقت تعليمها في جونفور الملك شير شاه السوري، الذي حكم شمال الهند، مما يعكس الأهمية التعليمية للمدينة في تلك الفترة.
وتأسست مدينة جونفور لأول مرة في القرن الحادي عشر، لكنها تعرضت للدمار نتيجة الفيضانات المتكررة لنهر غومتي. وأعاد السلطان فيروز شاه تغلق (1351-1388م) بناءها في عام 1360م خلال فترة حكمه لسلطنة دلهي. ويُشار إلى أن السلطان أثناء عودته من حملته العسكرية الثانية على البنغال، اُضطر إلى التوقف في ظفر آباد بسبب الأمطار الغزيرة. وأثناء إقامته المؤقتة هناك، انبهر السلطان بجمال السهول الواسعة والمناظر الطبيعية الخلابة المحيطة بنهر غومتي المتدفق. ودفعه هذا الانطباع العميق إلى إصدار أمر ببناء مدينة جديدة في تلك المنطقة الاستراتيجية. وأراد السلطان أن يكرم ابن عمه محمد بن تغلق، المعروف بلقب "جونا"، فأطلق على المدينة اسم "جونفور".
وفي ظل الحكم الإسلامي، أصبحت جونفور عاصمة لسلالة الشرقي المستقلة (1394-1479م)، وتحولت إلى مركز للعلم والفنون والعمارة. وخلال تلك الفترة، تم بناء العديد من المساجد والقصور البارزة التي ما زالت تجسد روعة العمارة الإسلامية. وهذه المباني التاريخية، التي تمثل مزيجًا من الجمال الفني والتقني، لا تزال تشهد على العظمة الثقافية والعلمية التي تمتعت بها جونفور في ذلك العصر.
كما تركت الحقبة المغولية أثرًا كبيرًا على مدينة جونفور، إذ استولى الإمبراطور المغولي أكبر عليها في عام 1559م، وأصبحت جزءًا من إمبراطوريته. ويقال إن أكبر أُعجب بجونفور ووصفها بأنها "مدينة ذات عظمة تضاهي ملوك المغول" بعد زيارته لها، مما يعكس مدى إعجابه برونقها وجمالها المعماري والثقافي.
وعلى الرغم من التحولات السياسية، استمرت المدينة في الحفاظ على دورها الثقافي والتعليمي حتى بعد أن أصبحت تحت الحكم البريطاني في عام 1775م. وحافظت جونفور على مكانتها كوجهة للعلم والفن، وظلت مركزًا تاريخيًا مهمًا يعكس تعاقب الحضارات التي أثّرت في مسيرتها الطويلة.
المعالم السياحية البارزة
تضم جونفور العديدَ من المعالم السياحية التي تجسد تاريخها العريق وثقافتها المتنوعة. وتعكس هذه المواقع التاريخية والأثرية الفترات المختلفة التي مرت بها المدينة، بدءًا من العصور الإسلامية وصولاً إلى الحكم المغولي والبريطاني. ومن أبرز هذه المعالم التي تروي قصص الحضارات التي أثّرت في تطور جونفور وجعلتها مركزًا ثقافيًا مهمًا على مر العصور:
مسجد أتالا
يُعد مسجد أتالا من أبرز وأروع المعالم المعمارية في مدينة جونفور، ويعكس بفخامته فن العمارة الإسلامية في الهند. وبدأ العمل على بناء المسجد في عهد السلطان فيروز شاه تغلق عام 1393م، واستُكمل تحت إشراف السلطان إبراهيم شاه الشّرقي في عام 1408م. ويتميز المسجد بارتفاعه الشاهق الذي يتجاوز 100 قدم، وبواباته الثلاث الضخمة التي تعزز عظمته الهندسية. ولطالما اعتُبر مسجد أتالا نموذجًا يُحتذى به في بناء المساجد الأخرى في المدينة.
مسجد جهنجهري
يقع مسجد جنجري في منطقة سيباه على الضفة الشمالية لنهر غومتي، ويُعد من المعالم الصغيرة ذات القيمة المعمارية الكبيرة في جونفور. وبُني المسجد في عهد السلطان إبراهيم الشّرقي، ورغم صغر حجمه مقارنةً بالمساجد الأخرى، يتميز بجمال أقواسه المتقنة ونقوشه الفنية الدقيقة التي تبرز مهارة الحرفيين في تلك الفترة. وتعرّض المسجد لأضرار جسيمة نتيجة للفيضانات المتكررة، إلا أنه لا يزال يُعتبر مثالًا رائعًا على روعة العمارة الإسلامية في جونفور، وحافظ على مكانته كرمز من رموز تاريخ المدينة.
مسجد الباب الأحمر (لال دروازه)
بُني مسجد "لال دروازه" في عام 1455م بأمر من زوجة السلطان محمود شاه الشّرقي، ويُعد من أبرز المعالم التاريخية في جونفور. ويتميز المسجد بتصميمه الفريد وساحاته الواسعة التي تحيط بها ثلاث بوابات ضخمة. وما يجعله مميزًا هو احتواؤه على نقوش قديمة بالسنسكريتية والبالية، مما يعكس تداخلًا ثقافيًا بين الإسلام والهندوسية في تلك الفترة، ويبرز روح التعايش والتسامح التي سادت في جونفور خلال حكم سلالة الشرقي.
القلعة الملكية (شاهي قلعة)
بُنيت القلعة الملكية في عام 1362م على يد السلطان فيروز شاه تغلق، وهي تُعد واحدة من أبرز المعالم التاريخية في جونفور. وتقع القلعة على الضفة اليسرى لنهر غومتي، وتتميز بأبوابها الضخمة التي يبلغ ارتفاعها 26.5 قدمًا وتصميمها المعماري الفريد الذي يجمع بين القوة والجمال. ويعتبر منظر نهر غومتي من أعلى القلعة من أروع المناظر الطبيعية في المدينة.
المسجد الجامع (جامع مسجد)
يُعد المسجد الجامع واحدًا من أبرز معالم العمارة الإسلامية في مدينة جونفور، ويُظهر روعة التصميم الهندسي في تلك الفترة. وبدأ بناء المسجد في عهد السلطان إبراهيم الشّرقي، وأُكمل في عهد السلطان حسين شاه. ويتميز المسجد بارتفاعه الذي يتجاوز 200 قدم، وبواباته الضخمة التي تحيط به، بالإضافة إلى أقواسه المزخرفة بنقوش تجمع بين الفنون الهندية والإسلامية، مما يجعله تحفة فنية رائعة تعكس تداخل الثقافات والعمارة المتقنة في عهد سلالة الشرقي.
الجسر الملكي (شاهي بول)
يُعتبر الجسر الملكي من أبرز المعالم التاريخية في جونفور، حيث أُنشئ في عام 1564م بتوجيه من الإمبراطور المغولي أكبر، بينما أوكلت مهمة تشييده إلى المهندس مونين خانخانا. ويتميز الجسر بتصميم فريد يجعله مميزًا على مستوى الهند، حيث يمتد مسار المركبات عليه بشكل أفقي على مستوى الأرض. ويبلغ عرض الجسر 26 قدمًا، وتتوزع على جانبيه حواف بعرض 2 قدم و3 بوصات. وفي وسط الجسر، ترتفع منصة مربعة تحمل تمثالًا كبيرًا لأسد يقف وقد وضع أقدامه الأمامية على فيل، ويعود أصل هذا التمثال إلى أحد الأديرة البوذية قبل أن يُنقل إلى موقعه الحالي. ويقع مسجد أمام هذا التمثال، ويُقسم الجسر إلى عشرة أجزاء في الجانب الشمالي للمسجد وخمسة أجزاء في الجانب الجنوبي، وتستند جميعها على أعمدة مثمنة الشكل.
معبد شيتيلا ماتا تشوكيا ديفي
معبد شيتلا تشاوكية ديفي يُعد من أبرز المعالم الدينية القديمة، ويمثل واحدًا من المراكز الرئيسة لعبادة شيفا وشاكتي، اللذين كانا محوري المعتقدات الدينية في العصور القديمة. ويُعتقد بأن المعبد قد بُني على يد أفراد من سلالة البهار، الذين كانوا غير آريين، وكان لديهم تقاليد قوية في عبادة شيفا وشاكتي. واسم "تشاوكية ديفي" مشتق من المنصة التي نُصب عليها تمثال الإلهة لأول مرة، مما منح المكان هذه الشهرة والقداسة. والإلهة شيتلا تُجسد مفهوم الأم الإلهية، ومن هنا جاءت تسميتها بـ"شيتلا"، التي تحمل في طياتها رمزية الحماية والعناية.
ويشهد المعبد تدفقًا كبيرًا من المصلين بشكل منتظم، وخاصة في أيام الإثنين والجمعة. كما تزدحم المنطقة بشكل ملحوظ خلال احتفالات النافراتري، حيث يجتمع الآلاف من الناس للاحتفال وأداء الطقوس، مما يعكس مكانة المعبد الكبيرة والروحية لدى المجتمع.
مسجد جامع، ماتشلي شهار
تم بناء هذا المسجد التاريخي خلال فترة حكم السلطان حسين شاه الشرقي، ويتميز بتصميمه البسيط. ويفتقر المسجد إلى الأقواس التقليدية، ويُروى أن النقوش الحجرية التي كانت تزينه قد تعرضت للتدمير على مر الزمن.
تال غوجار
تقع هذه البحيرة على بُعد حوالي ميلين إلى الغرب من منطقة كهيتا ساراي، وتُستخدم حاليًا لتربية الأسماك. وتتميز البحيرة بمناظر طبيعية خلابة تضفي جمالًا وسحرًا على المكان.
معالم سياحية أخرى
بالإضافة إلى المعالم المذكورة آنفًا، توجد العديد من المواقع البارزة الأخرى، مثل مسجد شير الذي بناه منيم خان بالقرب من جسر شاهي، والعيدگاه الواقع على طريق الله آباد. كما يوجد إمام باره صدَر الذي بُني في عهد محمد شاه، وجسر جلالبور. ومن بين المعالم الأخرى مسجد جامع في مادياهون، ومعبد شيف الذي أنشأه الملك سري كريشنا دوتا في دهارمابور، ودار اللغة الهندية في المدينة.
اقرأ أيضًا: من هو الأستاذ مظهر آصف الذي عُيِّن شيخَ الجامعة الملية الإسلامية المرموقة؟
كما تشمل المدينة معابد بارزة مثل معبد كالي في كيراكات، وتمثال شيفلينجا من عصر هرشا فاردان، ومعبد غومتيشوار مهادف في كيراكات، إلى جانب المواقع الطبيعية مثل محمية الفان، وضريح برهمانسا في قرية أونكا بمنطقة دهانياماو، ومعبد گاسوري شانكار في سوجانجانج. وتشمل المعالم الأخرى الغوردوارا، ومعبد هانومان في راسمدال، ومعبد شاردا في برمانتبور، وفيجيثوا مهافير، ودير كابير في قرية باسيتها، ماتشلي شهار، وجميعها مواقع تستحق الزيارة.
فيمكن القول إن مدينة جونفور تمتاز بتاريخها العريق الذي يمتد لقرون عديدة، وتُعد شاهدة حية على التقاء الحضارات والتنوع الثقافي. وتشكل معالمها المعمارية الفريدة وثقافتها المتنوعة دليلاً على هذا التعايش، حيث تحتضن المدينة تراثًا يمتزج فيه الماضي بالحاضر بشكل متجانس. وجونفور ليست مجرد مدينة تاريخية، بل هي مركز للتعليم والثقافة، مما يجعلها حيوية ومتجددة عبر العصور. ورغم التحديات التي واجهتها على مر الزمن، لا تزال تحتفظ بأهميتها كواحدة من أبرز المدن التاريخية في شمال الهند.