د. محمد عفان
كل بقعة من بقاع أرض الهند، من شرقها إلى غربها، وجنوبها إلى شمالها، تحكي حكاية، وتقدم منظرًا فريدًا، وتعرض صورة فذة، وتتحدث عن تاريخ عريق متجدد. وما أنا أتحدث به ليس بمبالغة أو تضخيم ما هو ليس بضخم، وتفخيم ما ليس بفخم. وبل حق لسكانها أن يقولوا على لسان شوقي:
وطني لو شُغلتُ بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي
ولعل في نوبة كهذه من نوبات النشوة العارمة تفتق عن قريحة الشاعر الكبير محمد إقبال الشعر الذي صار مضرب المثل وسار به الركبان وأصبح خفقة من خفقات القلب: بلادنا الهند أفضل بلاد العالم... هي حديقتنا ونحن عنادلها.
وإن أجمل وأثمن وأحلى وأغلى ما حبا الله هذه الأرض هي نعمة التنوع، التنوع في كافة الجوانب وعلى كل المستويات. ولا شك في أن كل ذرة من ذرات الأرض تضيء بالأنوار الإلهية كما قال شاعرنا أكبر الإله آبادي في بعض قصائده، وتدعو للتأمل والتفكير، ولكن سنة التفضيل والتفاضل أيضًا سارية في الكون، ففي تقديري فهم الآية الكريمة:وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚإِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ، وشرحها أيسر هنا من أي مكان آخر، ولعل ما ذاع وشاع عن الهند منذ القدم أنها بلاد العجائب والغرائب لم يشع ولم يذع خطأ وعفوا.
الهند حقًا بلاد العجائب والغرائب التي تستوقف النظر، وتأخذ بالعقل والبصر، وتلهم النفس وتلهب الفكر ولعل هذا المنظر دعا الكاتبة نوال السعداوي أن تقول: "رحلتي إلى الهند لم تكن كأية رحلة إلى أي بلد، كانت أشبه ما تكون برحلة الحياة كلها منذ الولادة حتى الموت... رحلتي إلى الهند كانت طويلة ومرهقة، ولكنها ممتعة، أشبه ما تكون برحلة إلى النفس في قسوتها وفي حلاوتها. ربما هي أصعب رحلة قمت بها في حياتي رغم أنني زرت معظم بلاد العالم ومشيت في أوعر الطرق. لكن صعوبة اكتشاف الهند تشبه إلى حد كبير صعوبة اكتشاف النفس".
وليست نوال وحدها التي عبّرت عن مثل هذا الانطباع، بل معظم الرحالين والسائحين يجدون أنفسهم مشدوهين مذهولين أمام المشهد الشاشع مترامي الأطراف العصي لملمته الصعب إحاطته الذي تعرضه الهند.
ولكن يا صاح أليس من الصعب بل من المستحيل بيان قصة الهند وحتى اختزالها؟ بلى! فلنكتف اليوم بعرض قصة منطقة من مناطقها حظيت بجمال ريانيجوز لها أن تتباهي به. فالمشهور أن بعض الملوك عندما شاهد هذا الجمال الفتان جرى على لسانه تلقائيا شعر معناه تقريبا: "إذا كانت هناك جنة على ظهر الأرض فهذه هي".
ولعل صيت جمال هذه القطعة من الأرض وصل إلى بلاد نائية، وإلا كيف انسلت ذوات العيون النجلاء في شعر حافظ "غواني كشمير ذوات العيون السود وأتراك سمرقند يغنون ويرقصون على أنغام شعر حافظ شيرازي".
ويبدو أن روحا خفية تسري بين هذه المنطقة ومنطقة "الشام"فتجمع بينهما في لمسة جمالية منقطعة النظير، كأن الخالق المصور رسم الصورتين بفرشاة واحدة. وهذه ملاحظة قد تكرر ذكرها في رحلة محمد بن ناصر العبودي التي سجّلها في كتابه "سياحة في كشمير"، وأرى أن السائح في عوالم جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وعلي الطنطاوي وهذه المنطقة يتفق معي.
ويقول جبران في "الأجنحة المتكسرة": "كنت في بيروت في ربيع تلك السنة المملوءة بالغرائب وكان نيسان قد أنبت الأزهار والأعشاب فظهرت في بساتين المدينة كأنها أسرار تعلنها الأرض للسماء. وكانت أشجار اللوز والتفاح قد اكتست بحلل بيضاء معطرة فبانت بين المنازل كأنها حوريات بملابس ناصعة قد بعثت بهن الطبيعة عرائس وزوجات لأبناء الشعر والخيال ... الربيع جميل في كل مكان ولكنه أكثر من جميل في سوريا. الربيع روح إله غير معروف تتطوف في الأرض مسرعة. وعندما تبلغ سوريا تسير ببطء متلفتة إلى الوراء مستأنسة بأرواح الملوك والأنبياء الحائمة في الفضاء، مترنمة مع جداول اليهودية بأناشيد سليمان الخالدة، مرددة مع أرز لبنان تذكارات المجد القديم. وبيروت في الربيع أجمل منها في ما بقي من الفصول. لأنها تخلو فيه من أحوال الشتاء وغبار الصيف وتصبح بين أمطار الأول وحرارة الثاني كصبية حسناء قد اغتسلت بمياه الغدير ثم جلست على ضفته تجفف جسدها بأشعة الشمس". وأنا أكيد أن زائر هذه المنطقة في موسم الربيع لا يخرج إلا بمثل هذا الانطباع.
وجبران يذهب بنا إلى شخصية أخرى تنتمي إلى منطقته، علي الطنطاوي الذي أفرد كتابًا بعنوان "دمشق"، يقول:
"(دمشق!)، وهل توصف دمشق؟ هل تصور الجنة لمن لم يرها؟ من يصفها وهي دنيا من أحلام الحب وأمجاد البطولة وروائع الخلود؟ من يكتب عنها- وهي من جنات الخلد الباقية- بقلم من أقلام الأرض فان؟
دمشق: التي يحضنها الجبل الأشم الرابض بين الصخر والشجر، المترفع عن الأرض ترفع البطولة العبقرية، الخاضع أمام السماء خضوع الإيمان الصادق. دمشق التي تعانقها الغوطة، الأم الرؤوم الساهرة أبدا، تصغي إلى مناجاته السواقي الهائمة في مرابع الفتنة؛ وقهقهة الجدوال المنتشية من رحيق بردى، الراكضة دائمًا نحو مطلع الشمس، تخوض الليل إليها لتسبقها في طلوعها؛ وهمس الزيتون الشيخ الذي شيبته أحداث الدهر فطفق يفكر فيما رأى في حياته الطويلة وما سمع، ويتلو على نفسه آيات حكمته؛ وأغاني الحور الطروب الذي ألهاه عبث الشباب ولهو الفتوة عن التأمل والتبصرـ، فقضى العمر ساحبا ذيل المجون مائسا عجبا وتيها، خاطرا على أكتاف السواقي، وعلى جنبات المسارب، يغازل الغيد الحسان، من بنات المشمش والرمان، ويميل عليها ليقطف في الربيع وردة من خدها، أو ثمرة من قلائد نحرها، ثم يرتد عنها يخاف أن تلمحه عيون الجوز الشواخص، والجوز ملك الغوطة جالس هناك بجلاله وكبريائه، جلال ملك تحت تاجه، وعاهل فوق عرشه.
دمشق: التي تحرسها (الربوة) ذات (الشاذوران) وهي خاشعة من محرابها الصخري تسبح الله وتحمده، على أن أعطاها نصف الجمال حين قسم في بقاع الأرض كلها النصف الثاني. وما الربوة إلا حلم ممتع غامض يغمر قلب رائيه بأجمل العواطف، التي عرفها قلب بشري، فيذكر كل إنسان بليالي حبه، وساعات سعادته، ثم يتصرم الحلم ويستحيل إلى ذكرى حلوة لا تمحوها الأحداث ولا تطغى عليها سيول الذكريات. الربوة: لحن من ألحان السماء ألقته مرة واحدة في أذن الأرض. الربوة هي الربوة لمن يعرفها وكفى!
دمشق أقدم مدن الأرض قدما، وأكبرها سنا، وأرسخها في الحضارة قدما...."
وما صوره الكاتبان عن الشام بريشتهما وقدماه من صور الجمال الباهر ينطبق على هذه المنطقة بدون زيادة أو نقصان. جبران لم يزر هذه المنطقة وأشك في زيارة علي طنطاوي لها، ولكن قدر لناصر العبودي أن يزورها مرتين حسب معلوماتي.
والعبودي شخصية دينية محافظة ولكن مسكرات صبوح الوجه الصبيح تغريه وتنشيه شاء أم أبى. الطبيعة الخلابة في صورها المتنوعة تسحره وتتشكل مدادا على صفحات الكتب. لا يفتأ يذكر كلما وجد سببا جمال هذا وذاك.
فأنظر كيف يسجل أولى انطباعاته في مطار دلهي عقب مصادفته طالبتين في جامعة علي جراه من ولاية جامو وكشمير، مسافرتين إلى بيتهما.
"وعندما صعدت في الطائرة ودلتني المضيفة على كرسي في الصف الأول بجانب فتاتين كنت رأيتهما وأنا واقف في الانتظار عند مكتب الترحيل لفت نظري مظهرهما الذي لا مثيل له بين الموجودين في المطار من أهل الهند فتعجبت من ذلك وقلت في نفسي من أي أرض في الهند هذا المظهر الجميل الذي لم أر له مثيلا...؟
وعندما تذكرت أننا مسافرون إلى كشمير وأنهما قد تكونان مسافرتين إلى هناك لأنهما من أهل تلك الولاية زال عجبي لما هو معروف في أهل كشمير من صباحة في الوجوه وجمال في المظهر".
وعندما حل أرض سرينغر (أو سرنقر كما يسميه) فرأى أول ما رأى إلى جانب الخضرة والنوافير والحدائق الغناء: "ورأيت في مكتب الأجانب هذا رجلين وامرأة بيضاء جميلة كاللبنانيات" وموضع الاستشهاد في الجملة التشبيه بين المرأة و"شقيقتها أو جارتها" في لبنان.
وعندما يوغل الكاتب في المنطقة أكثر فيلاحظ: ولاحظت كما يلاحظ الغريب لأول مرة يدخل فيها إلى البلد الفروق بين أهل هذه البلاد وبين بقية أهل الهند فوجدتها كثيرة أولها وأظهرها أن الجنس الأسمر الداكن اللون شديد النحافة غير موجود هنا وثانيها: أن الصباحة والملاحة في وجوه النساء أو على الأدق في وجوه كثيرة من النساء هي في مستوى لا تصل إليه نساء أهل الهند بل ولا إلى قريب منه أما الملامح وبعض العادات الظاهرة فإن المرء يشعر بالفعل أنه فارق التقاطيع الهندية الجنوبية وتقاطيع بلاد البنغال وأنه ليس بينهما وبين ملامح هؤلاء سبب أو نسب".
ويأتي إلى الموضوع مرة أخرى فيقول بعد بيان العلاقة الطيبة بين الرجل والمرأة المتسمة بالحياء خارج البيت، وعلى الشارع، وفي المكان العام: "ذلك بأنهن إلى صباحة وجوههن واتساق تقاطيعها فإنهن ذوات قامات ممشوقة وأجسام متناسبة...".
وعندما يتعدى من بيان جمال الذات التي يعتبر بدونها نصفا ناقصا غير متكامل إلى المادة من أرض وسماء وسهل وجبل ونهر وغابة ومدينة وريف فيقول معرفا بالعاصمة الصيفية في إجمال: "أما المدينة فإنها ذات حدائق كثيرة ونوافير تتطاير منها المياه... ويلاحظ المرء هنا كثرة الفواكه وتنوعها... والحدائق ذات النافورات موجودة هنا بكثرة لافتة للنظر حتى إنك لتظن أنك في أوروبا ولست في آسيا...".
قلنا كأن بين هذه المنطقة وأرض الشام علاقة روحية ووشائج قربى، والعبودي يعثر على هذه العلاقة حتى في سوق شعبي: "بعد ذلك تجولت في سوق شعبي في الحي الحديث من (سرنقر) وهو غير بعيد من فندقنا جهانقير ولكنني لم أزره قبل ذلك فإذا بي ازداد يقينا بشدة الشبه بين هؤلاء القوم أو على الأصح بين مدينة سرنقر والأحياء القديمة في مدينة دمشق ذلك بأن باعة الفواكه المختلفة موجودون في أكثر أنحاء الشارع بتعددها وكثرتها وأنواعها ليست ببعيدة من تلك التي يقف بها البائعون المتجولون على مفارق الطرق أو في الشوارع الجانبية في مدينة دمشق... وخيل إلي وأنا أسمع بعضهم ينادي على بضاعته بلغته الكشميرية أنه يلفظ اللفظ نفسه الذي ينادي به بائع الفاكهة أو الخضار على بضاعته في دمشق وذلك من حيث إخراج الكلمات وطبقة الصوت..." ويزيد الشبه هنا بدمشق مناظر الصبية الذين يبيعون أو يمرون بوجوهم البيضاء والباعة الكبار بالإشراق الموجود على وجوههم مماثل أو قريب لما تلاحظه على وجوه سكان الشام من الريفيين والقرويين...". وفي موضع آخر يسجل: "فكأن وجوه نسائهم وأطفالهم وجوه الشاميين التي يراه المرء في الأحياء الشعبية هناك في عواصم الأرياف...".
ويمر العبودي بدرب من الدروب فيجذب نظره جماله: "ثم أفضى بنا الطريق إلى بيوت على حدودها غابة من الأشجار الباسقة الملتفة وتحتها بساط أخضر من الحشائش التي تبدو متناسقة كأنما قد تعهدتها أيد خبيرة مع أن مساحتها واسعة..."
ويقترب من "بحيرة دال" وما يحيطها بعد زيارة جامع ومشاهدة تقاليد دينية لم يسغها وسماع قصص لم ترقه فيقول: "وقصدت فناء مكشوفا في شرق المسجد قد بنا على ضفاف بحيرة جميلة تحدها في الجهة الشرقية جبال خضراء ذات خضرة بهيجة والبحيرة نفسها جميلة المنظر، نقية المياه في جو بليل اختفت شمسه خلف الغيوم.. وهذه البحيرة تسمى (بحيرة دال) فتنفست الصعداء وملأت رئتي بالهواء النقي وعيني بمنظر هذه البحيرة الجميلة وخلفها الجبال الخضر التي تجلل هاماتها وغلائل من السحب الرقيقة".
ويزور العبودي حدائق منها "نشاط" و"شالمار" ويشعر في مايو ببرد يذكره ببرده في أيام الشتاء في الرياض، كما يذكره بأيام قضاها من شهر مايو في جنيف بسويسرا وفي مدريد في أسبانيا وفي باريس حتى يقول "فلم أر مايو الأوروبي أشد بردًا من مايو الكشميري إلا ما كان في أيام من مايو الباريسي".
وعندما يخرج السائح من سرنقر إلى قلمارغ يسطر تحت عنوان "الريف الرائع" ما يلي:
"وقد حف به صف من الأشجار العالية بل الباسقة في تناسق عجيب حتى إنك لا ترى امتداده مدى المصر وكأنما هذه الأشجار الباسقة جداران عاليان لحصن حجري هام إلا أنها جداران أخضران جميلان رشيقان رشاقة فتيات كشمير الجميلات وهذه الأشجار هي ناضرة كما أن وجوه فتيات أهل هذه البلاد ناضرة وعلى جانبى الطريق يرى المرء حقول الأرز وأحواضه الغارقة في المياه" ... "وقد استمر امتداد الأشجار العالية جدا المنسقة جدا على جانبى الطريق في منظر رائع إذ هو غاص بمناقع المياه، ولكنها منظمة وغير قذرة ربما كان ذلك بسبب برود الجو، وإذا نظر المرء إلى الأفق في اتجاه اليمين أو الشمال فإنه يرى الجبال الخضر التي كللت رؤسها بأكاليل من الثلج الناصع البياض".
وسائحنا العبودي كثير التلفت إلى شقيقات بلاده وخاصة منها سورية: "أما المناظر فقد أخذت تتغير إذ تشاهد على يسارك واديا بين الجبال خصيبا يتسع كلما صعت مع الجبل والريف الجبلي أكثر وضوحًا، ومن مظاهر ذلك شيخ يرعى غنما له لكنك إذا رأيته من بعد فلن تقنع نفسك بأنك في الهند، وإنما تظن أنك في شمال أفريقية أو في الريف السوري فهو يرتدي ملابس غليظة أعلاها ثوب غليظ يشبه العباءة الجزائرية إلا أنه ليس فيه غطاء للرأس فهو إذا كالعباءة التونسية تماما ولونه أبيض كالريفيين السوريين".
وفي طريقه إلى "تنقمرق" نرى العبودي مرة أخرى تجذب أنظاره ذوات الوجوه الصبيحة: "أما النساء فإنهن ذوات وجوه موردة كوجوه الإيرانيات اللاتي يسكن العاصمة طهران وما شابها في الطقس من البلاد، وأجسامهن ليست ثقيلة ولا هي بالنحيلة ولهن تقاطيع أغلبها رقيق بل إن المرء ليحار حين يرى الأنف الروماني في وجوه كثيرات منهن وهو الأنف الأقني- أي المرتفع وسطه_ الدقيق...".
ويلمس قارئ رحلة العبودي إلى كشمير أن (بهلقام) سحرته كثيرًا. يسجل قلمه: "منطقة (بهلقام) من أجمل الأماكن التي رأيتها في العالم ذات الجمال المطبوع".
وعلى هذا نراه كطفل طروب في حضن الطبيعة. ألم يقل هو نفسه في مكان "وهذا الهواء الندي الطري يغري بالمشي بل الجري ولو كان الإنسان مثقلا بالحمل...".
وجاء العبودي إلى بهلقام في زيارته الثانية للولاية، وإليكم نتف مما سجله من خواطر أثارتها في قلبه الطبيعة الجميلة المهيبة: "ومن المناظر العجيبة وجود جدول صغير ذي ماء رقراق ينساب نازلا من المرتفعات وأعداد من القماري وهو الحمام البري يعترض الطريق ولا يطير منه حتى تكاد تصله السيارة وهو هنا موجود بكثرة ويدل عدم نفوره من الناس على أن الناس هنا لم يتعودوا صيده.
وتشاركه المرح في هذه الجنان الكشميرية التي تجري فيها الأنهار عصافير برية زرقاء اللون كأنها على البعد الفراشات النشوى.
وقد كثرت فيها أشجار التفاح المحملة بالثمار فهذا هو أوان نضجها أو نضج أكثر أنواعها في هذه البلاد".
"وازداد علو الطريق في الجبال وازدادت كثافة أشجار الغابات فيها وظهر وادي اليبر أو (ليبرفالي) كما يسمونه بمياه نهره التي ترى على البعد عجيبة إذ يبين لونها أزرق شديد الزرق كأنه لون مياه البحر الصافية بل إن أجزاء منه ترى بيضاء اللون كأنها الثلوج المتحركة لشدة اندفاعها في بعض الأماكن وذلك لكونه آتيا من جبال صخرية ليس فيها طمي ولا ما يكدر الماء وليس هذا النهر الجميل بمياهه الصافية ولونه الفريد هو الماء الوحيد الذي تراه يجري في هذا الوادي على البعد وأنت تسير مع الطريق فإن هناك جدولين صغيرين كان يحفان بالطريق من يمينه وشماله كأنما ليؤنسا وحشته حين يخلو من الأنيس إلا أنهما احتفظا بلونهما الأبيض الرقراق واحتفظ بلونه الأسود الكثيف"
على أي حال ما سجله العبودي بشأن بهلقام من انطباعات إزاء المناظر الطبيعية هي كثيرة ورائعة، وحقًا من زار هذه المنطقة أو يزورها لا يجد ما يقوله إلا ما قد قال وأكثر. كل شبر من أشبار المنطقة يقول للهائم بالجمال المتيم بالحسن:
کرشمه دامن دل می کشد که جا اینجاست
كأن أرواح جماعة من الشعراء أمثال بيدل الدهلوي ونظير النيشابوري وقدسي مشهدي وصائب تبريزي تحوم في المكان وتضرب على أوتار الطبيعة ألذ الألحان والأنشيد الروحانية، فيرتج الوادي بالنغمات الصامتة، فيسمعها من أوتي أذنا صاغية.
د. محمد عفان هو أستاذ مساعد بقسم اللغة العربية، جامعة بابا غلام شاه بادشاه، راجوري، جامو وكشمير