عبد الرؤوف توتي/كيرالا
كان ذلك في مساء يوم السبت من عام 1999م، حيث كان توفيق زكريا، الطفل المسلم الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره، يتجه برفقة والده إلى الشارع اليهودي الشهير في منطقة ماتانشيري بكوتشي. كان هذا الشارع مميزًا بأجوائه الساحرة، وأضوائه الصفراء الدافئة، ومبانيه القديمة، ومتاجر التحف التي تروي حكايات زمن الماضي. وقد زار زكريا العديد من أزقة المدينة من قبل، وجد نفسه مفتونًا بجمال هذا الشارع الذي لم يرَ له مثيلاً.
فضول الطفل: أكثر من مجرد زيارة
في نهاية الشارع، يقع كنيس "باراديسي" التاريخي، الذي تم تشييده لأول مرة في عام 1568م، وأعيد بناؤه مرارًا على مر العصور ليبقى شاهدًا على تاريخ طويل. وفي المالايالامية، كلمة "باراديسي" تعني "أجنبي"، وهو اسم يعكس واقع اليهود السفارديم الذين هاجروا إلى كوتشي من إسبانيا، والبرتغال، وغرب آسيا، واستقروا هنا ليكون الكنيس ملاذهم الروحي.
وعندما وصل زكريا ووالده إلى الكنيس، كان الحارس عند البوابة وأخبرهم بأن الكنيس مغلق لهذا اليوم. ومع ذلك، فإن رغبة زكريا الشديدة في رؤية هذا المكان أثارت اهتمام الحارس، وعندما علم بذلك رجل يرتدي القلنسوة اليهودية، كان يضيء مصباحًا داخل الكنيس، سمح لهم بالدخول بابتسامة.
داخل الكنيس، كان زكريا يتأمل الكتابات الجدارية باللغة العبرية وصندوق التوراة المنحوت بدقة فائقة. لم يكن يدرك الطفل حينها أن هذه اللحظة ستظل محفورة في ذاكرته مدى الحياة، حيث استمع إلى الرجل وهو يخبره بأنه كان يشعل المصباح إحياءً لذكرى وفاة أحد أقاربه.
ويقول زكريا، الذي يبلغ الآن من العمر 35 عامًا: "إذا أغمضت عيني، فلا يزال بإمكاني أن أعيش تلك الذكرى". هذه اللحظة كانت نقطة تحول في حياة زكريا، إذ غرس فيه حبًا عميقًا للغات والثقافات الأخرى، وخاصة اللغة العبرية التي تعلمها بمفرده رغم صعوبتها. وأصبح زكريا لاحقًا خطاطًا شهيرًا عالميًا، ويجيد فن الخط في عدة لغات، بما فيها العبرية، والعربية، والسامرية. كما أنه أصبح باحثًا بارزًا في تاريخ يهود كوتشين.
من العربية إلى العبرية: مسار زكريا نحو اكتشاف الذات والتعلم
لم يكن شغف زكريا بفن الخط ولغات العالم وليد اللحظة، بل كان نتيجة سنوات من البحث والتعلم المستمر. وفي عام 2020م، بلغ ذروة إنجازاته عندما أتيحت له الفرصة لتقديم أحد أعماله الخطية إلى الرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريفلين، وهو إنجاز يعكس تمازج الثقافات وتقدير الفن كجسر بين الشعوب.
ولقد ساعدت نشأة زكريا في أحياء قلعة كوتشي وماتانشيري متعددة الثقافات على تطوير حسه الفني الفريد. منذ أن كان طالبًا، كان زكريا دائم البحث عن الجديد، وقد ابتكر في سن مبكرة مجموعة من الشخصيات التي تشبه اللغة الصينية، واستخدمها كأداة اتصال سرية بين أصدقائه. وهذه الروح الإبداعية والشغف باللغات والثقافات شكلت أساس رحلته المتميزة، والتي أضاءت طريقه نحو العالمية.
وكان تعرض زكريا للغة العربية في المدرسة حافزًا مهمًا لاكتشافه للغة العبرية. ويقول زكريا: "في المدرسة، تعلمت أساسيات اللغة العربية لقراءة القرآن، وسمعت العديد من القصص عن الأنبياء بمن فيهم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق". ويضيف: "في وقت لاحق، في مدرسة الدير التي درست فيها، تعلمت قصص الكتاب المقدس عن إبراهيم وإسحاق وإسماعيل. فأذهلتني هذه القصص من وجهات نظر مختلفة. وهذا أثار فضولي للبحث عن المنظور اليهودي، وسألت عن الجالية اليهودية في كوتشي، التي كنت أعرف عنها قليلاً، وسرعان ما سمعت عن اللغة العبرية، لغتهم الخاصة التي تشبه العربية في كتابتها من اليمين إلى اليسار. وهذا أثار اهتمامي".
وبدأ زكريا رحلته في تعلم العبرية من خلال كتاب جدعون المقدس. ويروي زكريا قائلاً: "عندما كنت في الصف الحادي عشر، رأيت كتاب جدعون المقدس في مكتبة المدرسة. وسألت معلمتي هل إذا كان بإمكاني استعارة الكتاب، فوافقت بكل سرور. واحتوت المقدمة على آية من إنجيل يوحنا بـ 25 لغة مختلفة، بما فيها العبرية، وكانت النسخة الإنجليزية تحتوي على كلمة 'الله'. وأردت أن أعرف الكلمة العبرية التي تعني 'الله'، وهكذا بدأت رحلتي لتعلم اللغة العبرية".
وبدأ زكريا بنسخ الحروف العبرية، حيث مارس الخط باستخدام القلم والريشة وعصي الخيزران. ويقول: "كنت أمارس الخط دون أن أعلم أنه شكل من أشكال الفن في ذلك الوقت". وفي متجر لبيع الكتب المستعملة، وجد مجلدًا يحتوي على النصوص باللغة العبرية من جهة واللغة الإنجليزية من جهة أخرى. ويصف زكريا هذا الاكتشاف قائلاً: "لم أكن أستطيع قراءة اللغة العبرية، ولكن كانت هناك صلاة تُدعى 'القاديش' في النهاية مع ترجمة حرفية بالإنجليزية. وكان هذا بمثابة 'حجر رشيد' الخاص بي".
وبينما كان زكريا وأصدقاؤه يستمتعون بأجواء الكنيس، جاء زيارة مجموعة من الأشخاص، بمن فيهم زوجة أحد مفوضي الانتخابات، برفقة جوزيف هاليجوا، زعيم المجتمع المحلي. ويروي زكريا: "فتح هاليجوا المذبح وأظهر التوراة. وعندما قال أحد أفراد المجموعة إن التوراة تبدو مقلوبة رأسًا على عقب، علمت أن الكتابة العبرية قد تعطي هذا الانطباع أحيانًا، فقلت: "لا، لا، هذا صحيح". وكان الرد بصوت عالٍ، وسألني هاليجوا كيف عرفت، فأجبته بأنني تعلمت العبرية بنفسي".
وبعد مغادرة الزوار، سأل هاليجوا زكريا عن اهتمامه بالثقافة اليهودية، واقترح جوي، القائم بأعمال الكنيس، أن يتحدث زكريا إلى صموئيل شقيق هاليجوا، الذي كان "موسوعة متنقلة" في تاريخ يهود كوتشي، مما أدى إلى بدء زكريا في دراسة التاريخ اليهودي. ورغم شغفه الكبير، واجه زكريا تحديات في التعليم الرسمي، حيث يقول: "لقد فشلت في امتحانات الصف الثاني عشر، على الرغم من أن علامتي الإجمالية كانت أعلى من الدرجة الأولى، وفشلت في الرياضيات. وكان الأمر محبطًا".
واصل زكريا تعلمه للعربية والعبرية بشكل مكثف، حيث استثمر دفاتر ملاحظاته القديمة لتدريب خطه. ويقول زكريا: "تعرفت على لغات السامريين والسريانية والآرامية والقبطية واليونانية. وما تعلمته في تلك السنة لم يكن موجودًا في أي منهج دراسي". ويضيف: "كنت معلمًا وطالبًا ومديرًا لمعهد الخط الخاص بي".
تركيزه على التقاليد اليهودية
في مشروع السنة الأخيرة من دراسته، ركز زكريا على تقاليد الطبخ اليهودية. وفي عام 2009م، اصطحب صديقًا لزيارة المدينة اليهودية في كوتشي، حيث عرض عشرة تصاميم مختلفة لبركة حبايت، وهي صلاة يهودية منقوشة على لوحات جدارية عند مداخل المنازل اليهودية. وبناءً على طلب صديقه، عرض زكريا التصاميم على سارة كوهين، الأم الجليلة للجالية اليهودية في كوتشي. ويصف زكريا رد فعل كوهين: "فوجئت جدًا برؤية مسلم يكتب العبرية جيدًا، وسألتني مرارًا: هل أنت يهودي؟ فقلت لها: لا، أنا مسلم". وكانت لوحة بركة البيتيت بداية صداقة دامت عشر سنوات حتى وفاة كوهين في عام 2019م.
وكانت كوهين تستضيف زكريا في احتفالات عيد الفصح وتقدمه وتعرفه لأعضاء الجالية اليهودية المتضائلة. وفي بعض الأحيان، كان زكريا يطبخ لأصدقائه ملتزمًا بقواعد الكوشير. ويروي زكريا: "في أحد الأيام، أخذتني إلى الكنيس عندما كانت الصلاة على وشك البدء، وقد كانت الجالية اليهودية في كوتشي كلها هناك. وقالت: 'قد تكون هذه هي المرة الأخيرة التي يتم فيها تزيين الكنيس بشكل جيد'". ويصف زكريا هذا الاحترام الكبير الذي لقيه.
وبعد تطوير أسلوبه الفريد في الخط، بدأ زكريا في تلقي الطلبات من الخارج، وكان من أوائل رعاته مليونيرًا أوكرانيًا طلب كتابة الكتاب المقدس العبري بالنمط العربي. ويصف زكريا العمل قائلاً: "كانت النتيجة عملاً خطيًا فريدًا بالخط العربي الكوفي القديم". ومن بين أعماله العاطفية تصميم شاهد قبر لجولييت هاليجوا، زوجة جوزيف هاليجوا، وتقديرًا لهذا العمل، سمحت له بفحص لوحة نحاسية يهودية قديمة.
ومع مرور الوقت، هاجر معظم اليهود في ولاية كيرالا إلى إسرائيل، وأصبح زكريا حارسًا ومؤرخًا للذكريات والمصنوعات اليدوية اليهودية. وفي يوليو من هذا العام، استُدعي زكريا لتفسير نقوش على شاهد قبر قديم في تاميل نادو، وعثر على نقش يعود إلى حوالي عام 1225م، مما يجعله أقدم من شاهد قبر سارة بات إسرائيل في كيرالا.
تواصله مع الثقافة اليهودية
يدير زكريا مدونة وصفحة على الفيسبوك بعنوان "يهود مليبار"، حيث قاده منشور على الصفحة إلى لقاء الرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريفلين في عام 2020م. ويقول زكريا: "كان المنشور حول تاريخ القرآن العبري في القرن الثامن عشر، والذي كان نتيجة عمل بتكليف من زعيم الجالية اليهودية في كوتشي. ووالد الرئيس ريفلين، يوسف يوئيل ريفلين، ترجم القرآن أيضًا إلى العبرية. وقد قاد ذلك إلى دعوة ريفلين لي، وساعدتني العلاقات الدبلوماسية بين الإمارات وإسرائيل في رحلتي إلى إسرائيل".
اقرأ أيضًا:
كيرالا: معلِّم القرآن الكريم يفوز في مسابقة لتسمية سيارة "سكودا" الجديدة
وكونه فنانًا مسلمًا مرتبطًا بتاريخ وثقافة اليهود، يواجه زكريا أسئلة حول موقفه من الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. ويؤكد زكريا دعمه للأخوة العالمية قائلاً: "أعتقد بأن كل شخص في هذا العالم يستحق أن يستيقظ ليجد يومًا مشرقًا وجميلًا، وأن يحظى بيوم سعيد، وأن ينام بسلام. بلا شك، أنا أقف مع كل أولئك الذين يعانون في هذا العالم؛ كلهم يستحقون السلام".